القائمة الرئيسية

الصفحات

مدونة محيدب سارة

      

انعكسَ ضوء الفجر الشاحب على أركان الغرفة، بجسدٍ منهكٍ نهضت من فراشها وسارت بخطواتٍ متثاقلة نحو غرفة والدها، إنها أيام شاقة فالتحضيرات لحفل الزفاف أنهكتها وامتصت كل طاقة بقيت لديها،  فتحت درج الخزانة، حلقُها جافٌ وتعاني من صداعٍ شديدٍ، أخذت قُرصين من المسكنات وابتلعتهمَا دفعةً واحدة مع جرعة من الماء، تنهدت بقوة ورمت بنفسها على السرير، مازالت تشعرُ بالدوار، أشاحت بنظِرها فوقع على ساعة الحائط، إنها  الخامسة صباحًا واليوم هو  "الثلاثاء" سيذهب والدها إلى المدينة ليدرس في الجامعة،اليوم الوحيد الذي يغادر فيه القرية ..

 كلما تذكرت والدها شعرت بغصةٍ، وكأن صخرة تَسُدُ أنفاسها، فبعد أن تتزوج وتُغادر من سيهتم به؟ وبينما هي غائِصَة  شعرت بشيء ما تحتَ الوسادة ..

 "ما هذا ؟ دفتر صغير !!" تمتمت.

  أخذته  وأول ما قفز إلى ذهنها "هل هذه مذكرات والدي ؟ ترددت قبل أن تفتحهُ، أخذت نفسًا عميقًا فالرغبة في معرفة سبب ذلك الحزن الذي لطالما اعترى وجهه يدفعها بجنون ضاربة عرض الحائط كل ما تربت عليه في عدم التطفل على الخصوصيات... فتحت الدفتر .. 

الصفحة الاولى:

"الكتابة انفتاح جرح ما"  - فرانتس كافكا -

وضعتني في فراشي، عيناها الجميلتين تتهرب مني، لا تريدني أن أرى حزنها، مسكتُ يديها وقبلتهما بقوة وقلت لها: سامحيني أمي، سامحيني لأني لا أشبه بقيّة الأولاد.

ولكنها بادرتني بصفعة قوية وصرخت في وجهي: أنا أنجبت رجلا وأملي فيك كبير، إياك أن تُخيِب ظني.

هكذا هي أمي ترفض الاستسلام، إن استلزم الأمر فهي تضع قلبهَا جانبًا لتعلمني درس من دروس الحياة ويومها تعلمت أول درس:  »هناك بشر مكتملين خُلُقِيا ولكنهم مُعاقون فكريا « ...

مدونة محيدب سارة

جميع أبطال قصصي كان طيف أمي موجود بينهم، لم أستطع الاستغناء عنها في ذلك العالم واستغرقتُ زمنًا طويلاً حتى فهمت أن إبداع الكاتب ليس سِوى استجابة لمنبهات خارجية أثارت خياله، منبهات قد تأتي على شاكلة بشر نتأثر بهم فيصبحون جزءً من عالمنا الذي ابتدعناه، ونجدهم يختبئون بين ثنايا حروفك.  

"انتهت من قراءة أول صفحاتِ الدفتر، شعرت بقشعريرة جليدية هزت جسدها كله، اغرورقت عيناها بالدموع، حاولت التوقف ورمي الدفتر اللعين فروحهَا لم تحتمل ما في جعبته ولكنها وصلت إلى مرحلة لا يمكنها الرجوع، وثب قلبها من مكانه وهي تقلب الصفحة  ..."

الصفحة الثانية:

"إنّ المرء حين يعاني حزنا كبيرا، حين يُكابِد كربا هائلا، لا يشّتهي إلا أن ينام"
- فيودور دوستويفسكي -

وذات يوم في جلسة شبابية مع أصدقاء الحي، كانت الأجواء مضطربة فامتحانات البكالوريا على الأبواب، وبالرغم من ذلك لا يمكن أن تَمُر جلسة كهذه دون الحديث عن الفتيات ! جميعهم يعيشون قصص حب، وكان يفترض بي أن لا أشاركهم في مثل هذه الأحاديث فمن ستحب شابا مشوها !؟ ولكن ياسمينة أحبتني لم يعرفوا أن لي حبيبة أرجع كل ليلة لأرمي نفسي بين أحضانها، عشنا مغامرات كثيرة وسمعت منها كلام غزل لم يسمعه أحد قبلي، أعلنت للعالم كله عن حبنا الأسطوري وحين كنت أستفيق من ذلك العالم الذي ابتدعته كنت أزداد كرهًا لنفسي ولكل من يحيط بي، واقع كان يومي فيه ينتهي بدموع تنساب بين خدي كالطفل الصغير، واقعٌ أصارعُ فيه بِمَا أوتيت من قوة فقط لأقول:  أنا موجود !

 أما أمي فكانت تسألني كل ليلة: لماذا تعشق الجلوس في الظلام ؟ لا تعرف بأني لم أكن لوحدي بل كنت منغمسًا في خيالي الجميل، وكأنه نوع من الميكانيزمات الدفاعية حتى لا أصِلَ لآخر مرحلةٍ من الإكتئاب "الاحتراق النفسي" حينها ستشهد غرفتي على آخر نفس لي 

نجحت في البكالوريا بأعلى معدل في الثانوية وهناك في ذلك المكان الملعون ازدادت معاناتي "الجامعة" إنها حقا مكان قاسي لمن هم مثلي .. كانت أمي تقول فقط إن كنت متميزًا في دراستك لن يرى أحد تشوهك، ثابر وستكون قدوة للكثيرين، وبالفعل يا أمي سهرت وتعبت ولكن حين كنت الأول على دفعتي بتقدير امتياز كانت أحاديث زملائي في الأروقة تقول: "ذلك المشوه هو الأول على الدفعة ! يستحيل ذلك، أشفق الأساتذة على حالته لذلك ساعدوه " أحيانًا كنت أتمنى لو خُلقت أصمًا وهل البشر يفكرون بجمال وجوههم  مثلاً ! البعض منا مُعاقٌ أخلاقيًا، ألا يدركون أن كلماتهم رماحًا سامة تخترقُ القلوب مُحدثةً جروحًا عميقة، ستبقى ندوبها على مَرِ الزمن، آلامي كانت تزول فقط عندما أرى أمي وهي ترقص فرحًا عندما تعلق  شهاداتي 

نتظرت بفارغ الصبر أن أصبح طبيبًا كما حلمت، مازلت جملتها ترن في أذني: "في البداية حاربوك ! وقفوا أمام طموحاتك ! ولكنك رفضتَ التنازل وفرضتَ نفسكَ فاعترفوا بقيمتك في الأخير".. 

ظننتُ أنّ نجاحي سيغير من نظراتهم لي، سيتعاملون معي كرجل مكتمل ولكني بدل ذلك تعلمت أن أتكيف مع تلك النظرات، وجاءت الصفعة  التي غيرت مجرى حياتي، صفعة أعادتني لعالمكم الذي ظللت أهرب منه لسنوات، توفيت أمي تاركةً وراءها فراغًا لن يملئه دفتر قصصي، توفيت أمي وآخر ما قالته لي: "اجعل من خيالك واقعًا لغيرك" كانت تدرك أن خيالي يسرقني من واقعي ورغم أني اعتبرته تطهيرًا نفسيًا لما أكبُته حتى أصل به إلى الصحة النفسية إلا أنها حاربت ذلك.... ذهبت وأنا لم أشبع منها، غبت عنها لسنوات كل هذا بسببك يا دنيا !!

(أغلقت الدفتر وغمغمت): أمي !! ما الذي فعلتِه ؟ ..

 شعرت بالتشنج والإنقباض في قلبها، فجأة طفى على السطح كل الخوف المتراكم  لسنوات، وبعد أن ظنت أنها تجاوزت كل شيء ها هو الماضي الأليم يعود ليشد الخناق عليها، تذكرت والدتها دنيا التي لا تعرف عنها شيئًا، فكلما سألت والدها رفضَ الحديث عنها، وكم من ليالي طِوال تخاصمت معه بسبب ذلك ولكن رأسه أيبس من الصخر، وفي تلك اللحظات عاد إلى ذهنها موقف لن تنساه ما حييت فهي في كل مرة تنفض الغبار عنه، في عيد ميلادها الخامس عشر ثارت على والدها بوحشية ورمت قالب الحلوى أرضًا موجهةً له أصابع الإتهام .. "أمي تركتنا لأنك مشوه ؟؟ " يومها رأت والدها يبكي بحرقة،  لأول مرة في حياتها كانت السبب في نزول دموعه الغالية، منذ تلك الحادثة عاهدت نفسها أن لا تفتح سيرة والدتها من جديد...

احتضنت الدفتر بقوة وهي تبكي "ما ذنبك يا أبي ! ليس لك ذنب ! ليس لك ذنب  !" ..

قلبت الصفحة لم تجد شيء سوى البياض.

 (صرخت): ماذا ؟؟ أريد أن أعرف ..

     أخذت تُقلِبُ صفحات ذلك الدفتر كالمجنونة، تحت تأثير موجة الإنفعال عجزت عن السيطرة عن نفسها، صفحة تلي صفحة ولكن عبث مجرد البياض لا وجود لأثر نقطة صغيرة من الحبر، شعرت بنار مضطرمة تلتهب بداخلها، ومن شدة الغضب رمت بالدفتر أرضًا فسقط منه ظرفٌ بريدي بريدي صغير  قفزت من السرير وسارعت بفتح الظرف   ..                                                                                                                                      

       اليوم 12 مارس 1990/

صرخت: هذا تاريخ ميلادي !! أخذت نفسًا عميقًا واستسلمت لذلك الشعور القاهر الطاغي من التبلد ثم أكملت قراءة الرسالة ..

 " يا ملاكي ستكون هذه الكلمات آخر ما أكتبه لكِ أريدكِ أن تعرفي قصتي مع والدتكِ قبل أن أضع حدًا لحياتي، يا حبيبة الروح لا تشفقي على حالي  ولا تحزني علي،  بل ارفعي يديك إلى الرحمان لعله يغفر لي ما سأقترفه في حق نفسي، أنا الآن جالس في غرفة مظلمة جدرانها باردة أشعر فيها بأني طيف غاضب يريد الانتقام ولكنه عاجز عن ذلك،  أريد أن أصرخ فيسمعني العالم بأسره، أريد أن أجد أجوبة على أسئلتي التي وضعت خنجرًا على عنقي ورفضت الرضوخ لي رغم أني أعلنت استسلامي ورفعت الراية البيضاء ! نزف قلبي فلم أجد جراحًا يوقف هذا النزيف،  بكيت بحرقة حتى جفت عيناي وتصحرت، والخطأ الفادح الذي اقترفته أني أبحرت في عالم النسيان وفي كل مرة أغفر لها تعود لتطعنني من جديد ما هذا العالم الذي أبحرت فيه ؟! وضعت شارة القبطان ورفعت الشراع مسافرًا نحو المجهول والآن الأمواج العاتية تأبى أن تنسيني الخيانة، والتيار يجذبني نحو سنوات الضياع التي قضيتها معها.

 كانت مشاعري صادقة وحُبي لها حقيقي،  بِعت الغالي والرخيص من أجلها، ضحيتُ بوالدتي لأكون فقط إلى جانبها ولكنها كانت تخدعني وتوهمني بحبٍ كاذب، وماذا عن الأيام التي عشناها مع بعض ! وعشنا الذهبي الذي بنيناه!  كل هذا أكان مجرد قلاع في الهوى ؟  أكان مجرد كذبة ! نعم كان كذلك وأنتِ الحقيقة الوحيدة في حياتي يا ملاكي، تأكدي من ذلك قبل أن أركب القطار في رحلة دون عودة، إلى الجحيم الذي سأقبع فيه...  

 وها أنا الآن أركب آلة الزمن وأعود بكِ الى الماضي الذي لم تمحوه قسوة الزمن، إلى  قبل ثلاثين سنة، حينها كنت في ريعان شبابي عندما تعرفت على والدتكِ، فتاة فائقة الجمال، خجولة  وطموحة وعنيدة، كانت مفعمة  بالحياة، تشع بأحلامها  وهذا ما أحببته فيها، وأكبر حلم كانت تسعى لتحقيقه هو أن تصبح ممثلة مشهورة ...

على المسرح أبدعت في دور هرمونيكا الفتاة المتسلطة التي نسجتُ شخصيتها بأحرفي، جسدت تخيلي ببراعة لا مثيل لها، ذلك اليوم كان هو أول لقاء لي معها ..

المخرج:  دنيا، تعالي لأعرفك على كاتب المسرحيات.

دنيا: آه إذن هذا هو بطلنا الحقيقي (مدت يدها لمصافحته) لماذا لا نراك يا سيد ....

(رد بارتباك): صلاح، اسمي صلاح..

دنيا (بابتسامة ساحرة): آه تشرفت بمعرفتك، وأنا دنيا طالبة بالمعهد المجاور لكم "الفنون المسرحية" ..

المخرج (متوجها بكلامه إلى دنيا): صلاح يدرس الطب حلمه أن يصبح طبيب أطفال أليس كذلك يا صلاح؟

(بخجل): إنه حلم والدتي ولولاها لكنت معكم الآن، أنت تعرف يا رامي أنا أعشق السينما..

دنيا: لا بأس تستطيع فعل الأمرين معًا...

 توالت اللقاءات وكثر اجتماعي بها، وأضحت في فترة قصيرة من أقرب أصدقائي لا بل كانت أول صديقة لي من الجنس اللطيف فبعد ثلة الصديقات والحبيبات الخياليات ها هي دنيا تقفز في حياتي كالشعاع لتنيرها، إنها جاذبية قلبها يا ملاكي كسرعة جناحي الطير بين الفد والفديد حبي لها كان يكبر، كنا نجلس لسويعات نتشارك الأحلام ونتبادل الهموم  بدون أن نشعر بالوقت، كانت تغوص في عينيا وتتأمل وجهي وكأنها لا ترى تشوهي !

وذات يوم تجرأت وسألتها: دنيا لماذا لم تسأليني عن سبب التشوه الموجود في وجهي؟

فردت بضحكات ارتطمت بوجهي كالقنابل، ضحكت من صماصيم قبلها حتى أوشكت على السقوط أرضًا بينما أنا بقيت جلفًا في مكاني مندهشًا..

ثم قالت بأنفاس منقطعة: آه يا صلاح أنت أكثر شخص جميل صادفته في حياتي، إن جمال روحك يعمي بصري عن هذا التشوه (سكتت لبرهة ثم أردفت  وهي تحدق في أعماق عيني): أنا أحبك ..

 ثم غادرت مسرعة، تجمد كل شيء من حولي، توقف الزمن، لا أسمع سوى دقات قلبي وكأنها طبولٌ إفريقية مجنونة، منذ ذلك اليوم بدأت علاقتنا التي اندهش كل من سمع بها "الفتاة الجميلة والشاب المشوه" ..

آه يا صغيرتي هل تعرفين معنى أن يقع الكاتب في الحب؟ أن يجد ملهمه ! في تلك الفترة كانت مسرحياتي تحقق نجاحًا كبيرًا واشتهرتُ في ذلك الوسط، وأنا في كل مرة أشترط أن تكون بطلة مسرحياتي حبيبتي دنيا .. حينها فقط دخل ذلك الطرف الثالث اللعين بيننا، الإختبار الحقيقي لحبنا إنها "الشهرة"

والدتكِ لم تكن صبورة أبدا تريد أن تصل إلى قمة النجاح بسرعة، لم تولي أهمية لاختياراتها أي دور يعرض عليها  توافق مباشرة وبسبب إصرارها على الشهرة فقط ولا شيء سوى ذلك بدأت مشاكلنا ..

صلاح:  قلت لا وألف لا أجننت!؟

 دنيا (بصبر نافذ): وما العيب في هذا !؟ جميع الفنانات المشهورات كانت بدايتهن هكذا ما المشكلة في ذالك ؟

صلاح (بصوت صاخب كالرعد): ما المشكلة في ذلك !!!  تمثلين في مسلسل كهذا لا يحترم مبادئنا وأخلاقنا ولا ديننا الحنيف قبلات ورقص وغناء !!

دنيا (بحزم): على العموم أنا جئت لأخبرك حتى لا تتفاجأ عندما تراني على شاشة التلفاز،  لقد وقعت العقد مع الشركة سأبدأ بعد غدٍ التصوير...

كانت هذه أول صدماتي كيف سمحت على نفسها أن تكون سلعة رخيصة ! كيف؟ كيف؟  ابتعدت عنها لعلها تعدل عن قرارها ولكني كنت الطرف الخاسر، تركت نفسي لشراسة الإشتياق لينهش قلبي.. وبعد الإنتهاء من تصوير المسلسل وبث أول حلقاته بدأت المشاكل تنهمر على رؤوسنا...  

فور ما وقعت عيناها علي اندفعت لاهثة نحوي، مسكتني من يدي بقوة وطلبت فرصة للحديث، قالت (بصوت أبح مخنوق قلق): اتصل بي شقيقي "ابراهيم" اليوم صباحًا إنه يهددني بالقتل..

  • (صرخت) ماذا؟
  • أكملت (بعينين دامعتين): يقول أني وضعت شرف العائلة في الأرض وأنه هو وإخوتي لن يرتاح لهم بال حتى يغسلوا العار الذي لحق بهم.                          
  •  (بنظرات معاتبة): كل هذا بسبب تمثيلك في ذلك المسلسل ! (اشتدت لهجتي) لقد حذرتك ولكنكِ لم تستمعِ لي.. 
  •  دنيا: هذا ليس وقت العتاب لقد مثلت وانتهى الأمر ..  
  • قلت بيأس: مازلت تصرين على خطأك !
  • (قاطعتني): ليس هذا فقط يا صلاح إنهم يعرفون عن أمر علاقتنا.      
  • (عندما قالت ذلك شعرت بغضب شديد، صرخت في وجهها): لنتزوج يا دنيا؟                   
  • دنيا:  لا أعرف !  لا أعرف !
  • (بوجه أحمر يكاد ينفجر): ما الذي لا تعرفينه هل تدفعين بي إلى الجنون بتصرفاتك هذه...

تركتها غاضبا، وعلامات الاستفهام بدأت تتلاعب بي ككرة القدم، وها هو الشك قد وجد  مسربًا ليعشش بداخلي، ربما ترفض الزواج مني لأني مشوه !!

رغم خوفي من فقدانها إلى أن كبريائي يعاند ويرفض اللهث ورائها، وفي المقابل أعد لي خيالي فخًا ذكيًا بدون أن أعي، فأوهمت نفسي بحبها وكذبتُ كذبة ثم صدقتها وعشتها فهي لم تحبني يوما بل كنت مجرد جسر عبرته نحو النجومية، مستغلةً موهبتي في الكتابة ونجاحي في الوسط، كانت كمصاص الدماء تتوق الى الشهرة كما يتوق هو إلى امتصاص الدماء ..

       ومرت الأيام وبدأ اسمها يسطع للجميع  وتهاطلت العروض عليها وهي في كل مرة تطلب المزيد، أما أنا فابتعدت عنها وانشغلت بدراستي في النهاية يبقى حلم والدتي فوق أي اعتبار ولم أكن لأحطمه أبدًا .. وذات يوم ماطر جاءتني إلى شقتي باكية، رمت نفسها بين أحضاني، أخذتُ أداعب شعرها الذهبي وانقسمت بين ثائر يريد أن يعرف من أبكى نور عيونه وبين حبيب لا يريد أن تفارق حبيبته أحضانه، يومها أنا لم أتكلم ولكن عيناها أوحيا لي بحزن كبير،  وبعد طول انتظار طردت السكوت الذي خيم فوقنا وقالت بصوت خافت وكأنها تهمس"هناك شخص يتحرش بي، إنه   كخيالي لا يفارقني ماذا أفعل ؟

  • من يكون ؟ هيا تكلمي من هو؟؟
  •  دنيا (بكلمات متلعثمة): إنه صديقك ..
  • (مندهشا): صديقي !
  • دنيا: نعم إنه المخرج "رامي"..

شرعت أبوابي للغضب وتركته يتحكم بي كما يشاء، فقدت السيطرة على نفسي وخرجت كالمجنون متوجهًا الى مكان عمله،  وفي اللحظة التي وقعت عينيا عليه هجمت عليه، أخذت أضربه دون توقف وفجأة اخترق صوتها مسامعي: صلاح  توقف ..

نظرت من حولي الجميع ينظر إلي، نظرات خائفة ومرتعبة تحيط بي من كل جانب، نظرتُ إلى نفسي وأنا أحكِمُ قبضتي ورامي مغطى بالدماء، أخذت أجمع الأجزاء المتناثرة من حولي، دماء  ووجوه مصدومة، بكاء وصراخ !!  رجل مشوه يتهجم على شاب وسط عمله  ..

 وقفت مذهولاً لهول المشهد، هذا ليس أنا ؟ يا إلهي ماذا فعلت ؟ أنا الطبيب المحترم المعروف بأخلاقي وسيرتي الحسنة أتحول إلى وحش بشري، أنا الذي أقول دائمًا أن العنف لا يحل المشاكل بل يزيدها تعقيدًا،  ألهذه الدرجة أذهب الحب عقلي ! وكأنه نوع آخر من الخمور أكثر قوة وأشد فتكًا..

ولكن المصيبة ليست فيما فعل الحب بي بل بما فعلت صاحبته، إدعت أنها لا تعرفني وبأني مجرد معجب دائمًا ما أسبب الإزعاج لها، بكل بساطة خافت على شهرتها لم تكن على استعداد لخسارة ما بنته من أجلي، وكانت هذه صدمتي الثانية، انتشر الخبر في كل الجرائد وتراجعت سمعتي في أوساط الناس، لم يتوقف هاتفي عن الرنين الأصدقاء والأقارب وعائلتي، الجميع يتساءل عما حدث؟ الكل متفاجئ  بما فعلت ! وكان يفترض بي إرضاء فضول الجميع.

لن أنسى ما حييت زيارة أمي لي المفاجأة، حين ذهبت لاستقبالها في محطة الحافلات جلست أنتظر وصولها بلهفة لأشكو لها همي لأبكي على صدرها الحنون، لمحتها وهي قادمة نحوي أخذت أبتسم لها من بعيد وأنا ألوح لها ولحظة التقائي بها وقبل أن أنطق بحرف واحد بادرتني بصفعة قوية استدار على إثرها جميع من حولي، وقفتُ مذهولاً، اغرورقت عينيا بالدموع، أما هي فأدارت ظهرها لي ورجعت إلى القرية، كابدت مشاق الطريق من أجل صفعة تشفي غليلها، لم أملك يومها الجرأة لأوقفها هكذا هي أمي امرأة قوية لا يمكنك التنبؤ بتصرفاتها ..

 ومرت الأيام ولم أقابل فيها دنيا منذ الحادثة، حاولت الرجوع الى حياتي ودراستي ولكني لم أنساها للحظة وبدل أن أمسك بكتبي  جلست أتابع أخبارها على التلفاز وهي كالفراشة تتنقل من برنامج لآخر.. وأطلت ذات يوم في برنامج النجوم كانت ترتدي فستانًا قصيرًا مكشوف الصدر، شعرها مرفوع فوق رأسها، أهداب اصطناعية،  ضحكاتها تتعالى، تغازل المضيف بكلامها  قلت في نفسي:  "أكيد أخطأت لا يمكن أن تكون هذه الفتاة دنيا، أيعقل ذلك !! أين اختفت الفتاة البريئة والخجولة التي وقعت في غرامها ! أين؟".

وفجأة نطق المضيف اسمها فقطع الشك باليقين، لم أعد أسمع سوى قلبي وهو يرسل لي ضربات قوية  إنها حقا هي !

  • سألها المضيف: أخبرينا عن حياتك الشخصية وردتنا أنباء عن خطبتك ..
  • دنيا: نعم هذا صحيح لقد خطبني المخرج "رامي" ..

عبارة حطت رحالها كالصاعقة على مسمعي،  "خطبني المخرج رامي"، "خطبني المخرج رامي" صدى هذه الجملة يتكرر وكأني فقدت جميع حواسي إلا حاسة السمع، جثثت على ركبتي، حوطت رأسي بكلتى يدي وضغطت عليه بقوة  لعلّ هذا الطنين القاتل يتوقف، أخذت ألطم وجهي كالمرأة الثكلاء .. بدأت حرب ضروس بداخلي كل جزء مني يتصارع لاتخاذ القرار ..

  • صرخ عقلي: توقف أيها الغبي إنها لا تستحق كل هذا أتبكي من أجل خائنة !!
  • رد القلب بغضب: أنا أتألم،  ألا تشعر بمعاناتي، إني أترنح على حافة الموت لم يبقَ بيني وبينه سوى شعرة واحدة.
  • فرد العقل مستخفًا:  لا تخف لن تموت، فحتى لو استسلمت أنت للحب وألقيت بأسلحتك مستسلمًا مقدمًا  رقبتك فداءً له  فأنا لن أرضخ، وسأظل أقاومه حتى النفس الأخير، ولن أنهزم إلا في حالة واحدة  وهي أن يدخل الجنون بابي ويتربع على عرشي ويطردني من مملكتي ..

( احتدم الصراع بينهما ولم ينقد الموقف سوى تدخل الجسد والروح ) ..

  • الروح : لم يكذب من قال أن القلب والعقل لا يلتقيان  ولا يتفقان إلا قليلا.
  • الجسد (وهو يبكي): ألا تريان حالي وكأني لعبة بين يديه، يحركني الحب كيفما شاء تدخل أيها العقل أوقف هذه المهزلة..
  • العقل: عندما يتمرد القلب أفقد السيطرة على  كل شيء
  • القلب: اذن أصبحت أنا الملام الآن وذنبي الوحيد أني أحببت !
  • العقل: أسكت أنت..(ثم أخذ يخاطب الروح) ولكن إن تدخلت بحكمتي ونصائحي ستموتين سأجْبِلُكِ على تعاسة عميقة !
  • الروح: لا تخف إن تدخلُكَ الآن سيعيد بعثي من جديد وستكون لي روح جديدة..
  • العقل (بحزن): لا يهم أن تكون جديدة المهم أن تكون قوية.
  • الجسد: الآن ليس وقت النقاش أيها العقل، افعل شيء ألا تراه يندب حضه ستصاب بانهيار عصبي هذا إن لم أشل أنا ! نبضات القلب تتراجع هيا أسرع  يا إلهي..
  • العقل: حسنا، حسنا سأستنجد بالنوم !   

سقطت كالمغشي عليه لا أتذكر شيئا سوى استسلامي للنوم، ومع حلول الصبح استقضت فزعا على صراخ رفيقي في السكن ..

  •  صلاح، صلاح استيقظ.
  • آه يا الهي ما هذا الألم ! رأسي يكاد ينفجر، هلا أحضرت لي مُسكنا أرجوك.
  • ليس الآن يا صلاح، هيا انهض هاتفك يرن منذ ساعة ..
  • ماذا ؟! من المتصل ؟

(مددت يدي على مضض، شعرت بأن مكروها ما حدث وأول ما تبادر إلى ذهني هي والدتي): آلو من معي ؟

  • مرحبا سيدي نحن نتصل من مستشفى عمر الخضري بوسط المدينة، جاءتنا البارحة الممثلة المشهورة "دنيا" مصابة بطلق ناري، لقد طلبت من المسعفين الاتصال بك قبل أن تغيب عن الوعي ...
  • (قفز قلبي من مكانه وصرخت): هل هي بخير؟
  •  لم تخرج بعد من غرفة العمليات..

(سقط الهاتف أرضًا من هول ما سمعت أخذت مفاتيح السيارة وخرجت مسرعًا، ازداد ألم رأسي فذلك الصِراع  عاد ليتأجج من جديد فالعاشق حين يقع في التناقضات لا يرحمه أحد...)

 العقل: أيها الأبله أنذهب إليها بعد كل ما فعلته بكَ !!

 الجسد: أنت الوحيد القادر على إيقافي أنت تعرف بأني عبد مأمور.

 العقل: ولكني لم أصدر لك أية أوامر أكيد تدخل عدوي اللدود إنه اللاشعور.

 القلب: دعوني أذهب إليها أرجوكم لو يحدث لها مكروه سأموت من بعدها..

 العقل: فلتذهب إلى الجحيم ! وما دخلنا نحن فيها ؟ يا ربي لماذا أنا محاط بالأغبياء والضعفاء !! سيودون بي الى الهاوية يجب أن أعلن حالة الطوارئ، لأعيد السيطرة على هذا العاشق.                            

(وصلت الى المستشفى رأيتها ويا ليتني لم أراها، سبب سعادتي وسبب حزني سبب ضحكي وسبب بكائي، لأجلها أعيش ولأجلها أتنفس ولأجلها أموت، دعيني أيتها الحياة لا تتمسكي بي  فأنا لا أريدك، دعيني فالروح لن تنعم بك ولن تتلذذ بطعمك، أنا.. ومن أكون أنا ؟ مجرد عاشق سيطرت عليه مشاعره وجعلته عبدًا لها، أما خيالي فاستدرجني لهذا الفخ الكبير أغواني لأنسج قصتي مع دنيا كالروايات فاستفقت على ضعف وهوان وما باليد حيلة !

خلق مني عاشق ضعيف يقف أمام معشوقته وهي بين الحياة والموت، يفكر باللحاق بها، لحظات انتظار خروجها من غرفة العمليات كانت أشد عليا من نصل السكين الحاد وهو يقطع الأعناق ..  

أيها العاشق من يتحكم بمصيرك ؟ هل ستتبع قلبك وتنسى الخيانة وتدوس على كرامتك ورجولتك وكيف لا تفعل ذلك وقلبك متعلق بها ! ينبض بالحياة مادام قلبها ينبض بذلك أم ستتبع عقلك الذي يرفض أن يتعلق بالأوهام ؟  يرفض أن ينصاع للحب وملِكَتِه، إنه يعتبرها لعبة خاسرة، يرفض أن يضحي، أن يتنازل !

 احتدم الصراع من جديد،  كلاهما قوتين ضاربتين  يمتلكان أسلحة فتاكة، قواهما متوازنة وسيؤدي اصطدامهما الى هلاكي، يجب على أحدهما أن ينسحب، وجاءت تلك الاتفاقية لتنقدني قلب يريد وعقل يفرض قيودا وشروطا على ذلك.

خرجت والدتك من العملية وقبل أن تفتح عيناها نطقت اسمي، جلست بجانبها أمسكت يدها هنا فقط شعرت بالهدوء  فأستمد القلب قوة كبيرة لم يمتلكها من قبل  ونقض الاتفاقية التي وقعها مع العقل، نعم في أول فرصة سنحت له تمرد عليه وأزاحه عن عرشه !

هي تراني ولكن لم ترى نفسها وبما فعلت الرصاصة بوجهها الجميل، هي لا تعلم بأن وراء الحادث شقيقها "ابراهيم" الذي كان دائمًا يهددها بالقتل، ولا تعلم بأن خطيبها "رامي" جاءها المستشفى وعندما أخبروه بوضع الإصابة سارع إلى قنوات التلفزيون لتكذيب خبر الخِطبة، لقد كانت أوقات عصيبة عليها فجأة تداعى كل شيء من حولها، الجمال والشهرة والمال اختفوا في لحظة والرجل الذي تخلت عنه من أجل كل هذا لم يتركها وحيدة، نعم مددت يدي إليها وطويت صفحة الماضي..

وبعد أن تحسنت حالها أخذتها بعيدًا عن المدينة، إلى منطقة نائية وسط الجبال، هناك بدأنا حياة جديدة، وبالرغم من أن جدتك رفضت زواجي منها وقاطعتني  لم أستطع التخلي عن دنيا، وتمسكت بها خاصة بعد مجيئك إلى هذه الدنيا، آه يا ملاكي لأربع سنوات وأنا غائص في الأوهام ...دفعتني والدتك لأغير تخصصي بعد أن كنت أسعى لتحقيق حلم والدتي بأن أصبح طبيب أطفال، غيرتها لأدرس الجراحة التجميلية، كانت تردد على مسامعي جملة وحيدة "أرجوك أعد لي ابتسامتي" ..

يا لِغبائي كان من المفترض أن أكون أنا مصدر وسبب هذه الابتسامة ! من أجلها تحملت الأقاويل، ظن الجميع أن سبب اختياري لهذا التخصص هو تشوه وجهي، ظنوا أني أملء نقصي هكذا !

وبعد التخرج مباشرة كان وجه أمك هو أول عملية تجميلية لي وكانت أكثر من ناجحة، دنيا عاد لها جمالها السابق مع تعديلات مني لتصبح أكثر جمالاً، في ذلك الوقت لم أكن أظن أني كتبت النهاية بيدي والجحيم الذي هربت منه لسنوات عاد ليلاحقني، ولكن هذه المرة لا مفر فذلك اليوم المشئوم جاءني متبخترا كالطاووس  ..

  رحلت "دنيا" ولم تترك لي سوى ورقة صغيرة مكتوب عليها  "سامحني يا صلاح، أتمنى لو أني أحببتك أكثر من حبي لنفسي وللشهرة، أنا أعرف بأنك لن تنساني لأني تركت لك قطعة مني سامحني" ..

هكذا وفقط  بضع كُليمات  لم تبرر، لم تفسر، لم تشرح،  لم تواسيني حتى !!

هذه هي قصتي مع والدتك، لم أستطع أن أرويها لك فأنتِ صغيرة على تحمل هكذا حقيقة ربما في النهاية معكِ حق وجهي المشوه كان سبب رحيل والدتك عني، ولكن أي سبب يدفع بأم لتترك ابنتها الصغيرة، سامحيني يا حبيبتي ولكني ما عدت أقدر على الدفاع عنها، وان تركتكِ هيا فأنا لن أدع يدكِ تنساب من قبضتي أبدًا...

أغلقت الرسالة لم تقوَ على تحمل ما قرأته، دخلت في نوبة هستيرية من البكاء، وفجأة دخل عليها والدها الغرفة اندفعت نحوه وارتمت بين أحضانه وهي تردد: "سامحني سامحني يا أبي".                            

الوالد: لماذا كل هذا البكاء يا ملاكي ؟ وهل يجوز أن تبكي العروس هكذا !

ملاك: هلا سامحتني، أنت أروع أبٍ في هذا العالم..

الوالد:  لم أغضب منكِ يوما يا ابنتي، تعالي اجلسي هنا (جلست على حافة السرير وهو إلى جانبها) ..

في تلك الحظة التي شعرت فيها بأن والدتكِ أخذت معها روحي بعد رحيلها كان الموت هو ملجئي الوحيد فهو الذي سيريحني ويضع حدا لمعاناتي وآلامي، كانت أنفاسي معدودة وقفت وتهيأت للموت أغمضت عيناي  وطوقت رأسي بحبل المشنقة  وفي اللحظة التي استسلمت أوقفني صوتك وأنت تنادين: بابا  فتحت عينيا  كنتِ واقفة أمامي تنظرين اليَ فاستحى الموت أمام وجهك البريء، نزلت مسرعا أخذتك بين أحضاني فكنت كالبلسم الذي داوى جراحي فتيقنت بأنك كنت الأمل الذي أعاد لي روحاً جديدة وقوية، لقد أنقدتني من الوقوع في قبضة خيالي وأصبح لي واقع أعيشه وهو أن أكون أبًا لكِ.

والآن أعتقد أنه الوقت المناسب لأقدم لك هدية الزواج انتظريني قليلا، ذهب إلى الشرفة ثم عاد وهو يحمل شجيرة صغيرة  وضعها بين يديها

ملاك (مندهشة): مرت عشر سنوات ولم تنسى يا أبي؟

الوالد : نعم لم أنسى طلبت مني أن أغرس لك شجرة في منزل زوجك حتى تتذكريني كلما رأيتها (وضع قبلة على جبينها برفق) يا بسمة حياتي وفرحتها، يا ملاكي إنّ العلاقة التي تجمعك بزوجك كالشجرة العملاقة،  تستمد قوتها من الثقة والوفاء، جذورها متغلغلة في العمق وأغصانها تناطح السحاب، تستمد شموخها وكِبرها ومكانتها من الاحترام، تستمد سِحرها وجمالها من المودة والحنان والرحمة، تأكدي يا بنيتي بأنّ هذه الشجرة ستقفُ في وجه العواصف والرياح القوية ولن تلتفت للأعشاب الضارة التي تحاول الالتصاق بها، ستبقى شامخة على طول الزمن... 

"يا ملاكي أحبيه بصدق أحبيه باحترام أحبيه بالوفاء فهذا هو الحب  لذا أحبيه ..أحبيه .. أحبيه" ..


 قد يعجبك أيضا:

زادُ الحياة (قصة قصيرة)

رمضان شهر التوبة (قصة قصيرة)

لن أتوقف عن إعطاءه حٌبًا أبدًا

أفتقدكِ حبيبتي.


  


                                                                    

تعليقات

الفهرس