القائمة الرئيسية

الصفحات

زَادُ الحياة "قصة قصيرة"

مدونة محيدب سارة



"الاستغفار أكبر الحسنات وبابهُ واسعٌ، فمَن أحسّ بتقصيرٍ في قولهِ، أو عمله أو رزقه، أو تقّلب قلبه فعليه بالاستغفار"
ابن تيمية.



باريس/ فرنسا.
الأول من أيّار/ الأربعاء/ الساعة السادسة صباحا. 


وهم الإبراء أَمَلٌ خافت يلمع بداخل المُدان وهو يُجَرُ نحو المِقصلة، أملٌ يوهمه بأنه سيتم إنقاذهُ قبل الرمق الأخير ! هكذا كُنتُ أفكر وأنا سجين هذه الغرفة المدلْهَمّة أينَ وُجِهَتْ لي أصابعُ الاتهام وألبسوني رِداء المُدان، لا أحدَ يُصدق ما يقفزُ من فمِي أمّا توسُلاتي الباكِية فتصطدم بقلوبٍ حجرية وترتد ضاربةً كرامتي لتمرِغَ أنفها تحت أقدامهم، بلغ اليأس مرتبة التعشيش وها هو الآن في طريقه نحو التزاوج مع روحي المضطهدة ليُنجِبَ انقطاع الرجاء والإحباط .. الأنا الساخر يُبحلق بنظرات ثاقبة ويصخب (حتى لو انبعث هولمز من قبره لن تنجو من هذه المصيبة يا مهند!) .. رغم ذلك تجاوزتُ كل هذا نحو خوفٍ أكبر جعل من كل دقة عنيفة زلزالا بقلبي بؤرته جملة استفهامية واحدة:


- من سيعتني الآن بجدتي المشلولة؟



أدخلتُ كمية معتبرة من الهواء إلى رئتي رغم قلته واختلاطه برائحة الرطوبة المتعفنة ثم أخرجته في زفرة وارفة وغمغمت: (استغفر الله العظيم وأتوب إليه، استغفر الله .. استغفر الله .. أستغفر الله) ..


 فجأةً .. اقتحم رَجُل أمس غرفة التحقيق وأنار الغرفة، تنفست الصّعداء فبعد أن اقتادوني إلى هنا بسيل من الاهانات تركوني في الظلام لتنهار إرادتي فأعترف بما لم أفعل وأتبنى ما يتهمونني به، لكن دقائق معدودة وازداد توتري أكثر من الأول فالمصباح فوق رأسي مباشرة يشتت تركيزي .. تقدم الرجل وبعثر صورًا أمامي ثم ضغط بيده اليسرى على كفي حتى كاد يسلخ اللحم عن العظم وجلجل بالفرنسية:


- أخبرني أين سيحصل التفجير؟


حدقت في جميع الصور مصدوما وغمغمت بداخلي (يا الهي) فقد وثقوا يوم أمس لحظة بلحظة بصور ملتقطة من جميع الزوايا !! شعرتُ بدوارٍ شديد كأنّ الأرض تهتز من تحتي وأجبته بصمت غريب ودهشة لا يُمكن بأي شكل من الأشكال كبح استعراضها على صفيحة وجهي كما أني كنت خائفًا من إعادة نفس الأجوبة (لا أعرف الشيخ حق المعرفة ! ولا الرجل الذي جاء إلى منزلي الأمر برمته صدفة ! لا أعرف عن أي تفجير تتحدثون!) فينهال علي مثل الوحوش المفترسة ..


 طال صمتي فاكفهر وجهه وبدَا مثل ثورٍ هائج استفزته قطعة قماش حمراء لملم تلك الصور بعصبية مفرطة وأدخلها في عينيا وأنفي وجلجل:


- هل مازلت تنكر علاقتك به؟


استسلمتُ وخرجت الحروف متقطعة:


- استغ..فر الله ..


لطالما اعتبرت هذه الجملة الأكسجين البديل، وحدها قادِرةٌ على التغلغل في سويداء قلبي فتشفيني .. كيف لا؟ وهي من أخرجتنا سالمين والسماء فوقنا تقصفنا بقنابل الفوسفور ومن أشعرتنا بالاطمئنان ونحن فوق قارب هش تتراقص به أمواج البحر كمن أمسك بقبس كهربائي، ومن آوتنا بعدما بتنا بجانب الكلاب المشردة ومن أوجدت لي عملاً في مقهى عمي السعيد المغترب الجزائري الذي بلج صدفة كأنه مائدة عيسى المنزلة من السماء .. استغفر الله الكلمة التي حين أتلفظ بها في كل ظروفي أستشعر الله الودود يجيب يا نَارُ كوني بردا وسلاما عليه ..


ضيّق جفنه وركز عن كثب مثل ما تفعله الحيوانات الضارية قبل الهجوم على الفريسة مباشرة وقال:


- حسنا سنعقد اتفاقا معك (اتسعت حدقة عينيا وتوترت فحاول أن يوضح لي بضع أمور خفية تجعلني أثق في كلامه) تأكدنا من سجلات الكاميرا ونعرف بأنك قابلت الشيخ لأول مرة أيضا فسجلات المكالمات لم تظهر تواصلك مع أي من هؤلاء لهذا نريد مساعدتك  ..


طويت ذراعي أمام صدري بشدة لشعوري بالتهديد من كلامه فالأكيد أنه سيساومني ! فإن كنت بريء لماذا لا يطلق سراحي؟ إذن إن رفضت المساعدة سأكون كبش الفداء أمام الاعلام والشعب هنا .. سأكون أنا ذلك الرجل الذي يحفظ ماء وجوههم ..


أردف بغيظ حانق يطحن نفسه:


- أنتَ الوحيد الذي رأى الانتحارية لهذا سوف نطلق سراحك (وضع يديه على الطاولة واقترب برأسه وعيناه تفترسني) لم يتبقَ من المهلة سوى خمسة ساعات (ثم أشار بأصابعه الخمسة)..


فرك مؤخرة رأسه محبطًا وصبره قد بدأ ينفد فبرز ذقني إلى الأمام متحديًا وأجبته بابتسامة واثقة ثم مباشرةً مددت يدي لأصافحه فصافحني ضاغطا على راحة يده للأسفل مبرزّا سيطرته وكرد فعل قمت بوضع راحة اليد للأعلى، واضعا يدي اليسرى على يده اليمنى من أجل تقويم المصافحة وتحويل القوة منه إليّ .. إنّه أمل جديد ليس لنجاتي فقط بل لأنقد أيضا تلك الفتاة المسكينة من بين أيديهم ..؟!


البداية  ...


بحساب هذا اليوم يكون قد مر شهر على وفاة جدي رحمه الله كان منظرًا مهيبا وأنا أراه يلفظ آخر أنفاسه على فراشٍ ليس بفراشه وفي بلد ليس ببلده، بالفعل ولا تدري أي نفس بأرضٍ تموت ! الشيخ الذي ربانا أنا وشقيقتي بعد أن فقدنا والدينا في سن مبكرة إثر حادث سير أليم كان يمسك تراب حلب ويقول بتعشُّق للمكان "عِشت هنا وأدفن هنا" .. لم يكن يدري وقتها أن الأحوال ستتغير والفتن ستقتلع ياسمين الشام لتزرع مكانه أشواك الفقد المُتَبَلِ ببهارات الألم والأشواق .. يوم وفاته شعرتُ بغُرْبَةٍ قاسية أكثَرُ شعورٍ شابه ما شعرتُ به لحظة خروجي أول مرة من حلب فارًا بجلدي يومها لم ألتفت ورائي لأرى مدينتي والآن أيضا لم ألتفت لأكحل عينيا برؤية قبره، دفنته وعدت مسرعا أحتضن مسبحته ياجورية الحبيبيات الإرث الثاني الذي بقي لي منه بعد وصيته .. جدي رحمه الله أوصاني بالاستغفار أفيون السعادة واندروفين الروح، أخذت أستغفر وهمومي تصطف في الطابور "مرض جدتي، فقدان شقيقتي، موت جدي، تعسر رزقي، اغترابي في هذا البلد دون زوجة وولد" طابور خانق لكن الاستغفار يجعله يهون في نظري ..


جدي رحمه الله كان يردد على مسمعي هذه الآية دائما:


(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا).[1] 


ثم يردف:


- تداوى بالاستغفار كأنّك لا تعرف علاجًا غيره يا ولدي ..


 بعدها بأيام قليلة توترت الأوضاع مجددا صُدِمْنا بخبر وفاة زوجة عمي السعيد المقيمة في الجزائر لهذا غادر مسرعا دون أي ترتيبات فأُغْلِقَ المطعم وانقطع رزقي من هذا الباب، انطلقتُ باحثًا عن عمل يُراعي ظروفي فلم أوفق .. بقيت على حال الاستغفار دون كلل .. وجاء اليسر مجددًا انهالت علي الخيرات من الجالية العربية المقيمة هنا حيث قدموا لي الطعام والدواء وحتى المال لأعرف بعد مدة أن عمي السعيد جزاه الله خيرا أوصاهم بي .. لحد الآن كانت رحلتي مع الاستغفار تشبه من يأكل عندما يجوع فإن لم تزقزق بطنه لما تذكر الأكل أبدا وهذا كان بؤس حالي .. حتى وصلت لمرحلة أين غذى الاستغفار مثل فيتامينات ضرورية لبقائي على قيد الحياة وذلك بعد أن صُدمت بخبر من ابن عمي الذي فر بعائلته إلى ألمانيا يخبرني فيه أن شقيقتي الوحيدة التي انفصلت عنا في الحدود اليونانية قد توفيت .. خبر نزل كالصاعقة على قلبي أشبه بفتيل ألهب روحي حتى غذت رمادا تناثرها رياح الحزن إلى أرض قاحلة .. لن تُزهر هناك مجددا.


مرت الأيام ثقيلة كعبور شاحنة على صدري فكرة واحدة تحدق في زاوية عقلي بوقاحة (لم تحافظ على أمانة والديك يا مهند) وقتها نصحتني جدتي بالاعتكاف في بيت الله حتى أستجمع نفسي مجددا والزاد أيضا في ذلك هو الاستغفار فكنت أجلس بعد صلاة العشاء حتى شروق الشمس أقضي الليل كله بين دعاء وذكر وقراءة القرآن والأهم الإكثار من الاستغفار ..


في اليومين الأولين لاحظت وجود مجموعة من الشباب لا يتعدى عددهم السبعة يلتفون حول شيخ أجلح ليس بطاعن في السن دو هيبة (حنطي البشرة، عريض المنكبين، حاد الملامح) وذلك بعد صلاة العشاء مباشرة حيث يجلسون في حلقة مستديرة ينصتون باهتمام لكلامه، في البداية لم أضعهم تحت المجهر لكن بعد رؤيتهم كل يوم تملكني الفضول لأعرف ما يدور بينهم ..


قبل 24 ساعة .. الثلاثاء.


دخلت المسجد وأنا عازمٌ هذه المرة على التّقرب منهم، جلست على مقربة وحتى لا ألفت الأنظار وأبدو كمن يتجسس عليهم بينت مسبحتي وأخذت كتاب الله في يدي .. كان الشباب يتناقشون على ما يبدوا حول موضوع تُلَوِنه صبغة التفلسف وهو نهضة الحضارة الاسلامية فجأة لمع شاب من بينهم مثل النجم القطبي بصوته الجهوري شُدت الأنظار إليه ليصمت الجميع وينصتوا له ..


قال بثقة:


-أسباب تخلف الأمة يا إخواني يعود إلى ثلاثة أمور رئيسية أولها الفكر فالعلماء يساهمون في اعوجاج الفكر الاسلامي لأنهم يشكلون لدينا تصورات خاطئة وبالتالي قرارات مغلوطة تؤدي لأفعال وأقوال منحرفة عن طريق الصواب (ضرب كفا بكف) إنهم "علماء السلاطين وليس علماء الدين" أما الأمر الثاني الذي ساهم في تخلفنا هم (القادة) حيث أصبحوا ظلمة لا تهمهم سوى مصالحهم الشخصية على حساب مصالح الأمة وأخيرًا (الوهن) حيث يقول رسول الله (نطق الجميع صلى الله عليه وسلم) "يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ" ..


شعرت بصدمة عقدت لساني فمنذ فترة ليست ببعيدة مرّ علي فيديو لطارق السويداني في برنامجه (حصاد الفكر) وهو يقول هذا الكلام الذي نقله الشاب حرفيا بعنجهية ! فترة وجيزة ودخل الشيخ فانتصب الجميع واقفًا، أشار لهم بيده حتى يعودوا لمجالسهم ثم جلس بينهم طاويًا رجليه لحظتها انطلقت النظرات في كل الاتجاهات حذِرة مترقبة على نحو غريب وغير مفهوم ! والأغرب هو استبدال لغتهم المنطوقة بسيل من الإشارات والرموز التي لم أفهم منها شيئا .. بعد دقائق بدأت الأصوات ترتفع مجددا وبت قادرا على السماع بوضوح ..


قال ذلك الشيخ بصوت أبح:


القائد الرباني كما يقول "ابن كثير" هو من يستطيع جمع الآخرين وتحفيزهم ليكون مبشرًا ومنذرًا ونذيرا للوصول إلى ما يُرضي الله عز وجل من عمل الدنيا والآخرة فإن بذل وصبر وصابر وكان بآيات الله من الموقنين صار إمامًا (تنحنح قليلا) يقول ربي في محكم تنزيله بعد بسم الله الرحمن الرحيم (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)[3] (ارتفع صوته واشتدت لهجته) والقائد الذي يرفع رايته ضد راية "لا إله إلا الله" متجبرٌ وكافر وعاص، يوجد عَلَمٌ واحد وهو عَلَمُ الدين الحق (الاسلام) الوطنية خُدعة، الهوية القبائلية فخ، نحن لا نحارب من أجل حدودٍ وهمية وضعها الكفرة فهذه الأرض لله ويرثها عبادهُ الموحدين.


انطلق لساني في الاستغفار مجددًا خطابه هذا يُحدِثُ تنافرا معرفيًا صارخًا لا يمكن تجاهله فهو يقدم معلومات جديدة من زاوية مختلفة لم أألفها من قبل، معلومات خلقتْ لي نوعا من عدم الاتساق ونحن كبشر بطبيعتنا نبحث عن الراحة النفسية نخاف الخروج عن الجماعة ونعجز عن التخلص من مهابة الأفكار التقليدية القديمة، نخاف من كل شخص يحاول وضع مفاهيمنا السابقة محل التشكيك ! 


صخب المكان بأصوات الشباب كردٍ على الشيخ:


- الله أكبر، الله أكبر.


احمر وجه الشيخ ونظر فيهم بغضب فأطبقوا على أفواههم، بقيت أُحدق بهم حتى أطلت النظر وكشفت نفسي .. نظر الشيخ إلي ثم بغتة أشار بيده مرحبًا حتى أنظم لمجلسهم وقال:


- تفضل يا بني، انظم لنا ..


فور ما قال ذلك حدقوا بي مستغربين وكأنّي حامل لفيروس خطير سأشكل خطرا إن اقتربت منهم لكنّه لم يلتفت لقلقهم الظاهر ..انتصبتُ واقفًا وسرت حتى أصبحت فوق رؤوسهم حينها وقف وسلم علي وهو ينظر بحدة كأنه يتفرسني ثم دعاني للجلوس إلى جانبه وقال ملطفا الجو المشحون:


-لماذا تنظر من بعيد كقطة وديعة تعال وشاركنا هذا المجلس الذي تحفه الملائكة ..


أردتُ أن أرد التحية لكن نظرات الشباب الحانقة كانت أشبه برائحة كولونيا التي توقد فاقد الوعي تمتمت مستحيًا:


- السلام عليكم ..


حينها بشت وجوههم على مهل وجاء الرد على لسان واحد:


- وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته ..


جلستُ فتابع الشيخ كلامه من حيث توقف هذه المرة لجأت لميكانزمات التفكير بما تحمله من عمليات عقلية مستبعدا العاطفة لأفهم خطابه، كان في كل مرة يستند في أقواله على الأجانب فبدى لي رجلا مثقفا مُلِمًا بمختلف العلوم، حمل مسؤولية تراجعنا إلى المسلمين أنفسهم ! حاول أحد الموجودين التنصل من هذا الحمل الذي ألقاه علينا الشيخ وأراد إقناعه بأنه لا حول ولا قوة لنا وبأننا كلما أخرجنا رؤوسنا من الجحر وجدنا مطرقة عملاقة في الانتظار لدهسنا ..


هنا رد عليه الشيخ بمقولة لكرويبر أعجبتني:


- الإسلام لم يمُر بمرحلة طفولة ولا بمرحلة نمو حقيقي لكنه انبثق مرة واحدة كامل النضج في حياة انسان واحد ..


ثم أردف شارحًا:


- لهذا عندما تقرر الخروج من جحرك اخرج بكامل جسدك دفعة واحدة والطم تلك المطرقة بعيدا ..


توقعتُ أن يضع ذلك الشاب نقطة النهاية لكنه بدل ذلك وضع فاصلة وخاض في مواضيع متعددة والشيخ يقود الحوار بحنكة حتى أوقعه في دوامة لم يعرف كيف يخرج منها وبعد أن كان يدافع عن ضعف المسلمين أصبح يلومهم !


هنا قال الشيخ:


-إنّ كسب الرعايا يتم بسلاسة أحسن من كسب المسلم لولا ذلك لما رأينا مرتدين عن الدين (رفع حواجبه) حسب توينبي فقد استغرق تحول رعايا الدولة الاسلامية إلى الدين الاسلامي حوالي ستة قرون ! تخيل معي !


وأنا أستمتع لحديثهم أصبح وجهي كالقطن ناصع البياض من شدة الفزع، ما الذي يدور هنا؟ وعن ماذا يتحدث الشيخ؟ والأفظع أنه بعد كل هدف يسجله الشيخ في شباك كل من يحاول مجادلته يهمس البقية بحماس (الله أكبر، الله أكبر) فخفت أن أبدي رأيي أمام هذا الجمع .. خِفْتُ أن أطرح أفكاري فيطرحوني أرضًا ويعتبرونني مرتدا عن الدين معارضا للشيخ الموقر أو فاسقا خرج عن جماعتهم فانتهى بي المطاف من جماعة الأقلية الصامتة التي تحدثت عنها العالمة السياسية Elizabeth Noelle Neumann في نظريتها لولب الصمت فنحن العرب حسبها نتبنى الرأي السائد ليس خشية العزلة فقط بل أيضا خوفًا من العقاب .. انطلقتُ في الاستغفار مُجددا بنية أن يرزقني الله البصيرة فهذا الشيخ قَادِرٌ على إقناعي  يثير بداخلي حماسًا عجيبًا ! قدِر على مخاطبة إحساسي العقلي ..


ثم قال جملاً بحميّة أوصلتني لآخر مرحلة من اللخبطة الفكرية:


- لا يمكننا يا إخوتي في الله إتباع من هم على ضلالة فنحن وهبنا الله البصيرة وأنار لنا طريق الحق "إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98)"[4] نعم هذه هي نهاية من يتبع كل ضال وفاسق.


(استغفر الله) تنفس بها قلبي مجددًا آملاً أن لا أنحرف عن عقيدتي فأنا لست ممن يتفاخرون بصلابتهم الدينية أدرك بقلق أني ضعيفٌ قليلُ الزادِ العلمي قد أتبع أي فكر يغوي عقلي ولو قليلاً .. بقيتُ أستغفر بصمت مستحضرًا كلام جدي الذي أخذه عن شيخ الإسلام ابن تيمية:


"التوحيد هو جماع الدين الذي هو أصلُه وفرعه ولُبّه وهو الخير كلُّه والاستغفارُ يُزيل الشرَّ كلَّه، فيحصل من هذين جميعُ الخَيْر وزوالُ جميع الشرّ" وإتباعي كل ضلالي يحرفني عن طريق الصواب أكبر شر لهذا طوق نجاتي هو الاستغفار .. الذكر الذي سينقذني من الوقوع في فتنة هذه الجماعة التي أجهل نواياها ..


***


بدأ الجرم السماوي يلوح في الأفق وها هي الشمس تشرق من جديد لا يلهيها عن مهمتها أحد أما مهند فأنساه هذا المجلس جدته المشلولة التي تنتظره بعجز وعندما رأى عجوزا بلغ من العمر عتيا قفزت جدته أمام فكره فبدى التوتر جليا على صفيحة وجهه رغم ذلك تريث في طلب الاستئذان حتى لا يبدو وقحًا لا يتقن أبسط تقنيات الاتصال لكن عندما رآه أطال الحديث انتظر لحظة أخذه نفسا قبل أن يتابع كلامه ثغرة قفز فيها ليستأذن فتهادى صوت الشيخ متّزنا هادئ النبرات هو يجيبه ..


- لنذهب مع بعض ..


ثم رمق أحد الشباب بنظرات جادة وقال بحزم:


- اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ..


أومأ الشاب برأسه مرتين وتمتم (إن شاء الله) ثم نهض وخرج معه من المسجد، بقيا يسيران في الطريق جنبا إلى جنب مهند مطبق على فمه أما الشيخ فكان يلقي التحية بوجه وضّاح المُحيّا باسم الثغر على كل من يقابله .. صَمْتُ مهند قِنَاعٌ يُخفي الضجيج الذي بداخله فأفكارٌ كثيرة كانت أكبر من استيعابه شكلت قطيعة ابستيمولوجية مع المفاهيم المتداولة العامة وباتَ يتساءل بفضول هل ستهْزِمُ هذه المفاهيم الجديدة جُلَ التراكمات المعرفية السابقة لديه؟ لم يعرف بعد ! .. وهكذا بقيا يمشيان على هذا الحال حتى توقف مهند لشراء بعض الفواكه لجدته حينها لبس الشيخ دور الصحفيين وانطلق في أسئلته (من أنت؟ وما قصة حياتك؟) ومهند يجيبه مثل بلبل مغرد .. بعدها استأذنه لزيارة جدته حتى يتعرف عليها ويؤنسها قليلا فرحب به وتابعا المسير إلى المنزل مباشرةً ..


تابع مهند استغفاره لخوفه من الانحراف عن الصراط المستقيم .. الفتنة في الدين هي أصعب الفتن هكذا كان يقول جده رحمه الله وللوقاية من حدوث ذلك كان يرى العلاج أيضا في الاستغفار مستندا على قوله تعالى: "قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ"[5] ..


ملازمة الاستغفار يُقَوِّمُ صراطه ويرزقه البصيرة التي تغربل الأفكار الدخيلة محل الشبهات، الاستغفار يحميه بمكون يشبه الكلازا فتثبت العقيدة السليمة في سويداءِ قلبه .. الاستغفار يزيل الحجاب الذي يحجب القلب للوصول إلى الحقيقة ..


 دخلا إلى المنزل فأكرم مهند ضيافة الشيخ أولا ثم أدخله لمقابلة جدته بعد أن هيأت نفسها .. دار بينهما حديث مقتضب أكثر من نصفه كان من نصيب الشيخ الذي أخذ يخفف عنها ألم فقدان زوجها ومرضها ثم نهض باستحياء وهو يغمغم (زيارة المريض قصيرة) .. وجرته أقدامه للمغادرة، وقف مهند بجانب الباب يراقب الشيخ من الخلف فجأة استدار بعد أن سار بضع خطوات ورأسه في الأرض كأنه متردد أو خَجِل من شيء ما ثم رآه يتمتم بكلمات غير مفهومة فقاطع عليه خلوته متسائلا بفضول:


- هل هناك خطب ما؟


رفع رأسه وتقدم حتى قارب جسده على الالتصاق به وأخرج ورقة صغيرة من جيبه وهمس:


هل يمكنني ترك هذه الأمانة عندك؟ سأرسل أحدا ليأخذها مساءً ..


أراد سؤاله عن فحوى الرسالة لكن شعر بأنّ ذلك سيكون عيبا في حقه (ماذا لو كانت هذه الرسالة تحمل مصيبة بين طياتها؟ فالقانون لا يحمي المغفلين !) أفكار سوداوية نطت على حين غرة .. استغفر مجددا من شر ما قد يجني على نفسه ثم مد يده على مضض وأجابه:


- حسنا لا بأس في ذلك.


فرد شاكرا ومودعا في نفس الوقت (جزاك الله خيرا) ثم سار في طريقه ليكون هذا اللقاء أول وآخر ما جمعه به ومع حلول المساء توقفت سيارة شيفروليه ترافيرس سوداء بزجاج معتم أمام منزل مهند ونزل منها رجل يدنو من ختام الثلاثين يسترعي الانتباه بطول قامته .. سلم له الورقة وبقي يراقبه كما فعل مع الشيخ وعندما فتح باب السيارة رأى فتاةً تجلسُ في الأمام وصله صراخها وهي تقول بالفرنسية:


- Sauve moi .. Sauv..e..


قفز قلبه من مكانه عندما سمعها تطلب النجدة فحاول اللّحاق بالسيارة لكنها انطلقت مثل البرق وخلفها سيارة أخرى، لم يفهم إن كانت تتبعه أم تلاحقه ! عاد مهرولاّ إلى المنزل وأخذ الهاتف ليتصل بالشرطة لكن فجأةً اقتحمت القوات الخاصة المنزل واقتادوه بوحشية إلى مركز الأمن ووقتها عرف أنّه في مصيبةٍ كبيرة .. سألوه دون نصب (أين الشيخ ومتى سيحصل التفجير؟) وهو لا يفهم عن ماذا يتحدثون؟ لم يكن يعرف بأنّ هؤلاء مجموعة ارهابية ستقوم بعملية تفجيرية بأحد الكنائس وتلك الرسالة التي بقيت معه تحوز على مكان وزمان التفجير تركها الشيخ عنه لتضليل عناصر الأمن التي كانت تراقب جميع الأعضاء ..


***


(يا الله أنقذني) تمتمتُ وأنا أنظر إلى ساعة اليد التي وضعوها في يدي لرصد كافة تحركاتي ربما تتساءلون كيف قبلت التعاون معهم؟ وبماذا وثقت؟ في الحقيقة عندما تركوني في الظلام وحيدا أعدتُ شريط لقائي بالشيخ مشهدا بمشهد وقتها تذكرت أمرا عابرا فعندما تركته في الصالة ودخلت لأهيئ  جدتي للقائه سأل من مكانه عن ورقة وقلم فأخبرته بأنه سيجدهما في درج الخزانة التي بجانبه بعدها بدقائق كنت قادمًا إليه فسمعته يتحدث عبر الهاتف ..


 "إنها في فندق هوليداي إن باريس نوتردام" والآن بعد أن اتضح كل شيء توقعت أن التفجير سيكون بكاتدرائية نوتردام التي تبعد مسافة 500 متر عن هذا الفندق.


 أوقفتُ سيارة أجرة وانطلقت مسرعًا عندما وصلت إلى الكنيسة التي تقع في قلب مدينة باريس على ضفة نهر السين استقامت عقارب الساعة على العاشرة صباحًا، لاحظتُ ظِلَ رجلين يتبعانني منذ انطلاقي فزادني الأمر طمأنينة فإن حدث أي اشتباك سيتدخلان لانقاد الوضع، ألقيتُ بنظرة سريعة إلى هذه الكنيسة التي لطالما سحرتني بجمال بُنيانها المصمم على الطراز القوطي الشهير وزخارفها الرائعة .. أخذت أبحث عن صورة ذلك الرجل في الوجوه المحيطة بي لكن عبثا، اختنقت بي الحلول فهل أذهب إلى الفندق وأطلب منهم سجل المقيمين؟ أم أبقَ هنا لعلي ألمح الرجل؟ شعرت بظلام فكري مباغت يشبه انقطاع الكهرباء .. جثثت على ركبتاي وأخذت أردد: (اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت ..)  الاستغفار طريق الفلاح مقولة أيضا يرددها جدي رحمه الله ..


فجأة تذكرت أعلى كنيسة نوتردام فعلاً إنه المكان المناسب لرؤية كل شيء فمن هناك ترى منظرا بانورامي بديع لمدينة باريس، نهضت وركضت نحو السلالم الضيقة التي تأخذك مباشرة إلى هناك .. انطلقت مستغفرا وأنا متيقن بأن الاستغفار يزدني قوة فالله يقول في محكم تنزيله "وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ"[6] ثلاثمائة وسبعة وثمانون درجة مع كل درجة استغفر ربي حتى وصلت لآخر الدرج وبدت أجراس الكنسية، أخذت أتمايل مثل دجاجة قُطِع رأسها من شدة التعب .


شجعت نفسي بعزيمة (هيا مهند ابحث عن الرجل هذا ليس وقت الاستسلام) رفعت رأسي فإذا بعيني تقع عليه كأنه مغناطيس جذبني فتجمد الدم في عروقي وتسارع نسق تنفسي .. يقفُ في مكانٍ مكشوفٍ جدا حاملاً بيده مِنظارا ويُدقق النظر نحو الأسفل استدرتُ فرأيت الرجلان يأتيانِ من بعيد فأشرت لهما حتى يتوقفا ولا يشدان انتباهه ثم تسللتُ ببطء من خلفه وعندما قاربتُ على تحويطه من الوراء شعر بي فسارع لإخراج جِهاز تحكم عن بعد وقبل أن يضغط عليه قفزت من فوقه .. ارتطم بالأرض وسقط من يده الجهاز وهنا تدخل الرجلان  وأمسكا به ..


سجدت لله شاكرا لأنه أنقذني من هذه المحنة وظهرت براءتي فعلا الاستغفار يدفع البلاء كما في قوله تعالى: "وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ"[7] .. 

عدتُ مع الرجلين إلى مركز الأمن حتى تُأخذَ إفادتي قبل أن يُطلق سراحي، عينيا تلمعان بحبيبات من الدمع وإيماني يزداد أكثر بأنّ طوق نجاتي من كل المحن مرتبط بكثرة الاستغفار .. هناك كانت المفاجئة .. أو بالأحرى المعجزة التي عقدت لساني ..


بعد أن دخلتُ غرفة مدير الأمن وأخذت أقُصُ عليه كل ما حصل أخبرني بأنهم أنقذوا الفتاة من بين يدي الجماعة الارهابية فبعد تمشيطهم للمنطقة وجدوها بداخل سيارة مركونة على مقربة من الكنسية والمتفجرات موضوعة بداخلها، خُطتهم كانت تقتضي رميها من السيارة بين الناس ثم تفجيرها عن بعد، بغتةً وقف وطلب مني أن أتمالك نفسي ثم نادى على الشرطي الذي كان يقف أمام الباب وقال له (هيا أدخلها) أحسست بدمائي تلتهب وقلبي يدق مثل طبول إفريقية مجنونة، دخل الشرطي وخلفه البنت وعندما رأيتها سرت في جسدي من قمة رأسي إلى أخمص قدمي رعدة كانت أعنف ما يمكن لأوصالي .. إنها شقيقتي التي وصلني خبر وفاتها، شقيقتي لم تمت ..


عدتُ إلى المنزل محتضنا شقيقتي لا أكاد أصبر متى أدخل بها على جدتي، تمنيت لو كان لي بساط علاء الدين لأتجاوز به زحمة السير وبطء البشر .. حضنتها بحرارة لعلها تشعر بالأمان الذي افتقدته وهي المسكينة تبكي دون توقف .. بكت حتى  تناثرت أشفارها لا تردد سوى جملة وحيدة (جاءت رحمة الله، جاءت رحمة الله بالاستغفار) حتى هي لم تنسى نصائح جدي الذي كان يقول لها كلما تعسرت في وجهها وضاقت (الاستغفار يجلب رحمة الغفار) كما قال تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ۖ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ»[8] ...ذ

***


توقفت السيارة فنزل مهند راكضًا وشقيقته تتبعه على مهل متكئة على الشرطي، عندما اقترب من الباب سمع قهقهات تداعب جدران المنزل الكئيبة .. طرق الباب مرتين وهو يتلوى أمامه من شدة التوتر فجأة أطل وجه ملائكي بابتسامة ساحرة .. حدق فيها بعجب ! فطأطأت رأسها خجلا وقالت:


- أبي لقد جاء مهند ..


ثم مشت بخطوات محتشمة، تَبِعها وعقله يضرب أخماسًا بأسداس من هذه البنت؟ وما الذي تفعله هنا؟ ومن هو والدها؟ ليجد الأجوبة تصطف لإنارة عقله تِباعًا إنه العم السعيد قد عاد من الجزائر والأكيد أنّ هذه ابنته كريمة التي دائما ما حدثه عنها ..


عندما رآه انتصب واقفا وسارع لاحتضانه ثم هجم عليه بقلق:


- أين كنت؟ وما الذي حصل معك؟ وكيف تترك جدتك لوحدها؟


والجدة أيضا تتساءل بحرقة:


ما الذي أصابك؟


لم يجد ما يجيبهما به سوى بالتنحي من أمامهما ليريا شقيقته خلفه، صُعق عمي السعيد أما الجدة فانفلتت منها صرخة مدوية تبعها سيل من الدموع امتزج بحروفها المتلعثمة ..


-  مريم ابنتي، مر..يم ..


ارتمتْ البنتُ في حُضْن جدتها وتحول المكان إلى مناحة تقتلع أحشاء السكون الجميع يبكي متأثرا بهذا اللقاء الدرامي، مهند لم يقوَ على رؤية منظرهما فسلى نفسه بخِفة وذهب ليبكي وحيدًا في المطبخ .. يبكي ويشكر الله ويحمده .. بعد رحلته مع الاستغفار بدأ يجني ثماره ..


دخل عليه العم السعيد ووضع يده على كتفه مواسيا وقال:


-الحمد الله ربي رحيم بعباده، أنت شاب صالح يا ابني والله لا ينسى عباده الصالحين ..


ثم جذب كرسي الطاولة الموضوعة وسط المطبخ وأشار له بيده ليجلس إلى جانبه وعندما فعل ذلك تابع كلامه:


-  سأعود للاستقرار في الجزائر وأود أن أترك لك أمانتين المطعم وابنتي ما رأيك يا ابني؟


تهلل وجهه وتمتم بدهشة:


-ابنتك !


رد العم بثقة:


-نعم أريد تزويجك ابنتي وتأمينك على رزقي كما أن كريمة تحمل الجنسية وبزواجك منها ستحل أمور إقامتكم (لمعت عيناه بحب) هل أنت موافق يا ابني؟


انبسطت أسارير وجهه واشتعلت نظرة عينيه بفرحة ناطقة ثم قال مجيبًا:


"فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)"[9] ..


***


الاستغفار بلغت مرتبته أن جعل الله منه بابا من أبواب الجنة فاستغفروا يا أمة محمد واجعلوا هذا الذكر زادكم أثناء رحلة الحياة ليكون بعدها تذكرة دخولكم الجنة بإذن الله وتذكروا أن ابليس يقول (أهلكنا الناس بكثرة الاستغفار) وفي الأخير نختم بسيد الاستغفار كما قال رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام:


 سيد الاستغفار هو "اللهم أنت رب العالمين أنت ربي خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" ..

 أما جدتي فإن كان لسانها يترطب بالحمد دائما إلا أنها كلما رأتني مغمومًا أفكر بحالنا الذي تغير تقابلني بوجه بش وتخفف عني قائلةً (يا مهند خذ من صيدلية محمد[2] دواء الاستغفار) وقصتي مع الاستغفار بدأت قبل عامين من الآن حين فررت من الحرب إلى المجهول، طريق مبلطة بالصعاب جعلها شاقة ومنهكة لأرواحنا ولولا زاد الاستغفار لما خرجنا سالمين غانمين  .. حتى وصلت لهذه الأيام التي فقدت فيها جدي وأصيبت جدتي بشلل أقعدها السرير ولأنها بحاجة إلى رعاية دائمة ولأني لم أكن أعرف أحدًا في مدينة الجن والملائكة حشرت في الزاوية فإما أتفرغ لرعايتها وأترك العمل أو أحافظ على باب رزقي وأفرط في جدتي وبطبيعة الحال هذا ما لم أكن لأفعله مهما كان .. ليلتها جلست أستغفر حتى انبلج الصبح وجاء معه الفرج أذن لي عمي السعيد بالعمل في أوقات قليلة حتى أقوم بواجبي اتجاه جدتي ..

بقلم محيدب سارة.




[1]  القرآن الكريم، سورة نوح.
[2]  رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام.
[3]  القرآن الكريم، سورة السجدة، الآية 24.
[4]  القرآن الكريم، سورة هود.
[5]  القرآن الكريم، سورة فصلت، الآية 6.
[6]  القرآن الكريم، هود، الآية 52.
[7]  القرآن الكريم، سورة الأنفال، الآية 33.
[8]  القرآن الكريم، سورة النمل، الآيتين 45/46.
[9]
 القرآن الكريم، سورة نوح.



تعليقات

الفهرس