القائمة الرئيسية

الصفحات

رمضان شهر التوبة (قصة قصيرة)


مدونة محيدب سارة

رمضان شهر التوبة

محيدب سارة







وقفتُ مذهولاً انظر إليه من بعيد، لم أقوَ على الحِراك وكأنّ سُمًا شلني،  ازداد خفقان قلبي وأنفاسي تتقطعُ كأني أتنفسُ من خُرمِ ابرة ...

-نعم إنه هو ! أنا متأكد يا الهي ما لذي أصابه !! ... تمتمتُ خانقًا.

أخذتُ مصحفًا من بين الرفوف وجلستُ بجانبه، لحظةَ جلوسي انهالَ على مسمعي قولهُ تعالى: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ  إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا  إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)" الزمر.

آية حطت رِحالها على ربوع قلبي مُفجِرةً ما رَان عليهِ من الذنوب، ذنوب تكدَست على صدري لطالمَا واجهتهَا باللامبالاة. .

بكلمات مُتلَعْثِمة سألته:

* عم...ي جمال خيرًا أصابك لماذا بُتِرت رِجلُك؟

رفع عينيه نحوي، وسبقَتْه ابتسامته قبل أن ينطق بحرفٍ واحد وقال:

* يا بني المؤمن مُصاب الحمد الله على كُل حال، قبل شهر خرجتُ من صلاة الجمعة فلم أجدْ حِذائي لعَل أحدهم أخذهُ بالخطأ العِلْمُ عند الله، يومها رجعتُ المنزل حافي القدمين فجرحتُ قدمي اليسرى وكما تعلم يا ولدي فأنا مصابٌ بالسكري، تفاقمت حالتي فاضْطُر الأطباء لِبترها، الحمد الله على كل حال ".  

كانت كلماته صفعة قوية أفاقتني من سنوات عِجاف عانيت فيها من قسوة القلب ومن جفاف الروح، لم أقوَ على السيطرة على نفسي، دموعي التي كانت تختبئ في أحْلَكِ الظروف اليوم تُنادي بالحرية، لم أفلح في السيطرة على نفسي، بكيتُ بحرقة والرجل المسكين يُواسيني كأني أنا المصاب لا هو، من أين له هذا الثبات؟ حقا انبهرتُ بثباته وكيف كان  راضيًا بقضاء الله حامدًا شاكرًا ..

تركته وخرجتُ مسرعًا، طول الطريق كنت كالمجنون أبكي وأنوحُ كالمرأة الثكْلى، وصلتُ منزلنَا بِشَقِ النفس دخلتُ غُرفتي وأغلقت الباب...

(يا الهي ماذا فعلت أنا ؟ لقد كنتُ سببًا في بَتْرِ ساق الرجل، أنا من أخذت حذاءه وبِعته بثمن بَخْس لأشتري السجائر، اااه يا ربي كم يا ترى من ذنب اقترفته هو عندي هَيِن وهو عندك عظيم ..).

تعالت أصواتٌ بداخلي، صوتٌ يُعظم ذنبي، يصرخُ: "لن يَغفِر لك، لن يَغفِر لك"، وصوت آخر يُردد تلك الآية، آية الرجاء.... شعرتُ أني ضعيفٌ جدًا .. بحاجةٍ إلى ربي، ازداد نَحيبي ...وفجأة سمعتُ صوتاً آخر إنه آذان الفجر، وكأني أسمع صوت الآذان لأول مرة في حياتي، وكأنه يُخاطبني أنا بالذات "حي على الفلاح ..حي على الفلاح ..." ..

طرقاتٌ على باب الغرفة "بني قم لتتسحر، اليوم هو أول أيام شهر رمضان المبارك " ..

أخذتُ أصرخ فرحًا: "رمضان" .. شهر الغفران  فرصتي ..

فتحتُ الباب وارتميتُ في أحضان أمي: "أماه لقد أَذِنَ لي سُبحانه لقد رزقني الهداية "....

أول أيام رمضان كانت بداية القصة، انطلاقة رحلتي مع التوبة، ظللتُ عاكِفًا في المسجد استغفر الله على ذنوبي وأحمده على نِعمه، لأول مرة أشعر بحلاوة الصوم، بحلاوة القِيام ..تغير حالي كثيرًا وكُلما دُقت من كأسِ القرب من الرحمن طلبتُ المزيد ..

 وبدأت العشر الأواخر من رمضان، كنت أبكي طيلة الليل نادِمًا على أفعالي، أرجو العِتق من النار، وفي ليلة الثامن والعشرين، قبل آذان الفجر شعرتُ أنها ليلة القدر فرفعتُ يدي إلى الملِك راجيًا عَفوه، دعوتُ ودعوتُ حتى اختلطت دُموعي بكلماتي، وبينما أنا على ذلك الحال سمعتُ أحدُهم يُرتل القرآن ..

 تناهلت على مسامِعي قوله تعالى: "وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ " (البقرة: 216) ..
 
التفتُ فإذا به عمي "جمال" فاقتربتُ منه ودموعي تسبقني، أخذتُ أبكي وأُقَبِلُ رأسه:

"سامحني  يا عمي جمال سامحني "..

نظرَ إلي، أخذ يمسحُ دموعي، لم يكن مندهشًا ولا غاضبًا، أجلسنِي بجانبه وقال:

* لقد رأيتك ذلك اليوم عندما أخذتَ حِذائي،حينها دعوة الله أن يرزقك الهِداية، لا تحزن فكل ما حدث معي كان خيرًا، فبعد بَتْر رجلي اكتشف الاطباء وجود خلايا سرطانية مُميتة بدأت بالانتشار ولو لم تُجرح رِجلي ذلك اليوم لما تفطنَا بها.

ماذا؟ لم أصدق ما سمعته ..

تابع كلامه وبين الفينة والأخرى ينظر إلى الأعلى ويحمد الله:

* الحمد لله،  يا بُني وما ربك بظلامٍ للعبيد، وكل شيء من تدبيره خيرٌ لنا، نحن فقط بحاجة لنفهم حكمته، بَتْرُ ساقي انقدني من الموت وجلبَ لك الهداية

رتبَ على كتفِي:

 * "وعسَى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم"  الآية الأولى كانت رسالة الله لك والثانية كانت من نصيبي ..

بقيتُ تحت وطأة الصدمة للحظات، ثم وقفتُ وكبرت، ثم سجدتُ إلى ربي حامدًا شاكرًا، منذ تلك اللحظة تغيرت حياتي كلها، جعل لي ربي القبول في الأرض بعد أن كان الناس يُغيِرون الطريق عند رؤيتي خوفًا من بطشِي وجبروتِي، وتحسنت معاملتي مع والدتي بعد أن كنتُ لا أتردد في نعتها بأسوأ الألفاظ، وأصبحتُ أتحرى الحلال في مكسبي ففتح لي ربي أبواب الرزق على مصراعيها ورزقتُ بزوجةٍ صالِحة فاضِلة كاللؤلؤة المكنونة ..

وأنا الآن أكتب لكم هذه الكلمات من البقاع المقدسة في ليلة الثامن والعشرين من رمضان، برفقة عمي جمال الذي دعى في تلك الليلة أن يرزقه الله حجةً إلى بيته المبارك فأكرمه بذلك سبحانه جلى جلاله...

اخوتي لا تقنطوا من رحمة الله، وسارعوا إلى توبةٍ عرضها السموات والأرض وخاصة في شهر رمضان، الشهر الفضيل الذي ستجدون فيه العون الكثير، فدواعي الشر مُضَيَقة والشياطين مُصفدة، وتذكروا لن يخيب أبدًا من قال (يا رب) فيا الله إنك تحب العفو فاعفوا عنا.

قال الله تعالى :" قُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا " سورة نوح .




تعليقات

الفهرس