القائمة الرئيسية

الصفحات

المزاج العنيد (قصة قصيرة)

مدونة محيدب سارة


عام  2011 /

وقفت تنتظر السفينة، وما إن ظهرت مقدمتها حتى اندفع الناس، كلٌ يريد لنفسه مكانًا مناسبًا لملاقاة أحبابه ..

أخدت تتساءل بقلق: هل شارفت على الوصول؟

رد عليها رجل خمسيني: نعم وأخيرًا وصلت ..

رددت: الحمد لله، الحمد لله ..

نظر إليها الرجل، لاحظ علامات التوتر والحزن، استغرب من أمرها فجميع الموجودين تغمرهم فسألها والفضول ينهش عقله:  من تنتظرن يا بيتي ؟

تناهلت على مسمعها هذه العبارة، استدارت حائرة لا تعرف جوابًا، بحلقت في عينيه ودمدمت: أنا أنتظر، أنا أنتظر .. زوجي .. أنتظر زوجي ...

حدق فيها مستغربا، ثم ابتعد عنها وتركها وحيدة تعانق همومها، ترفض أن يؤنسها أحد، أخدت تلوح بلهفة نحو المجهول، فتحت داكرتها  باحثةً عن وجوهٍ تعرفها ولكن سرعان ما وجدت نفسها غريبةً عنهم وأيقنت بأن داكرتها هي مقبرة النسيان ....

وبعد ساعات غادر الجميع وجلست هي على شاطئ البحر تداعبها نسماته العليلة، تنتظرُ عودة السفينة لتودعها ككل عام، وفجأة رأت ثلاثة شبان غارقين في جو مشحون، أصواتهم بدأت تتعالى رويدا رويدا ..

الشاب 1: يقولون أنّ عاصفة هوجاء قادمة، إذا انطلقنا هذه الليلة ستكون حياتنا مهددة بالخطر.

 الشاب 2: إن لم نغادر الليلة فلا تحلم بالذهاب مرة ثانية، علينا أن نغتنم هذه الفرصة،  الجميع منشغل فيوم غد أول أيام العيد المبارك ..

تقدمت نحوهم بجسد يرتعش،  نبضات قلبها تتسارع فهذا المشهد قد مر عليها من قبل،  وبدون أن تشعر أخدت تصرخ: لا تذهبوا،  لا تذهبوا ...

 الشاب 1: من هذه؟ ستفضحنا المجنونة، هل يعرفها أحد منكم ؟

 الشاب2: أنا لا أعرفها ...

 الشاب 3: ولا أنا !  إذن من تكون ؟

   الفتاة: أرجوكم لا تذهبوا، فكروا في أمهاتكم في عائلاتكم ..

 الشاب1: نحن ذاهبون من أجلهم، من أجل حياةٍ أفضل لنا ولهم ..

  الفتاة: عن أي حياة تتحدث؟ أنتم تخاطرون بحياتكم في عرض البحر من أجل أحلام يقظة وفي الأخير ستكتشفون أنكم لاحقتم السراب .

  الشاب 2 (بغضب): هيا شباب ماذا قررتم؟

   الشاب 3: من جهتي أنا معك .

الشاب 1 (متردد): لا أعلم، لا أعلم ..

  الفتاة: أرجوكم لا تذهبوا، قبل خمس سنوات ذهب زوجي مع مجموعة من الشباب على متن قارب صغير نحو إيطاليا، كان مثلكم يعانق الأفق، متأكد من أن نجاتنا هناك (أشارت بيدها إلى ما وراء البحر) وفي عرض البحر تحطم بهم القارب ولم يتمكن من النجاة سوى شابان، أما البقية فلا نعلم عنهم شيئا  ومن بينهم زوجي، ولحد الساعة لا أعلم  إن كان على قيد الحياة أو لقي حتفه يوم الحادثة ...

الشاب 2: قدرنا مكتوب يا امرأة، وإن كان الموت ينتظرنا فاللهم لا إعتراض ..

 الفتاة: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، ما تفعلوه يسمى انتحارًا ..

الشاب3 (بحسرة):  أنا أكبر إخوتي، تعرض أبي لحادث في مكان عمله أفقده حياته، ثم رفض صاحب العمل تعويضنا، أو الإهتمام بنا، تنصل من مسؤولياته، وعندما حاولنا أخذ حقنا بالقانون تعرضنا للتهديد، أمي الآن مريضة وإخوتي صِغار، يجب أن أتغرب وأعمل من أجلهم ..

الشاب 2: أما أنا فأبي مدمن مخدرات، طيلة سنوات وهو يعنفنا أنا وأمي، مند نعومة أظافري وأنا أحلم بالضفة الأخرى ..

 الشاب 1 (ابتسم): أنا تخرجتُ من الجامعة قبل سنين، والآن أمتلك شهادة لا تساوي شيئا أمام البيروقراطية .. كلما تقدمت لوظيفة خرجتُ أجر أذيال خيبتي، تعبتُ يا أختاه من الرفض، من الفشل، سأذهب من هنا ..

اغرورقت عيناها بالدموع، أرادت تجربة حظها للمرة الأخيرة لكن قبل أن تتفوه بكلمة تابع الشاب كلامه:

 ليس لقلة الوعي أو لحبنا للمغامرة أو لأوروبا، ركوبنا قوارب الموت سببه المعاناة التي نعيشها كل يوم، الموت أحن من معيشة الذل والهوان ..

 ****

غادر الشباب الثلاثة، بعد أن طلبوا منها الدعاء لهم، ووعدوها بأنهم سيبحثون عن زوجها، وعادت هي محطمة القلب، تشعر بضيق يكبس أنفاسها لأنها فشلت للمرة الثانية في إيقاف قارب "الحراقة" .

فتحت الباب  ودخلت، هدايا في كل مكان، ماذا هناك؟ وفجأة أطل زوجها، وحضنها بقوة،  اختلطت عليها مشاعرها بين الفرح والحزن، هل ما تراه حقيقة أم وهم؟ ..

همس زوجها: لقد عدت، عدت يا حبيبتي وسآخذك هذه المرة معي  ..

***

و بعد مرور أيام قليلة تفاجأت بخبر وفاة الشباب الثلاثة، نعم لم يستطع أحد منهم النجاة من تلك العاصفة ....

"آه منك أيها البحر، ومن مزاجك العنيد، أعدت لي زوجي وأخذت ثلاثة شباب في مقتبل العمر،  إلى متى سيظل قارب الموت موتًا؟"


قد يعجبك أيضا:

زادُ الحياة (قصة قصيرة)

رمضان شهر التوبة (قصة قصيرة)

لن أتوقف عن إعطاءه حٌبًا أبدًا

أفتقدكِ حبيبتي 

تعليقات

الفهرس