القائمة الرئيسية

الصفحات

الوقوع في قبضة الخيال (قصة قصيرة)


مدونة محيدب سارة




محيدب سارة


أينما وليت وجهي أرى نظراتهم تلاحقني تُحاصرني من كل الجهات، وفي محاولة مني للهروب منهم سقطت في هُوة كبيرة، هناك في ذلك المكان أقف بين عالمين، عالم أفرُ  منه وعالم آخر أخافُ أن يسرقني من نفسي، ولكني سئمتُ  التواجدَ بينَ البينيْن فقررتُ الإختيار. ..


عالم هرِبت إليه لسنوات طويلة من حياتي، نسجتُ خيوطه ثم صدقته حتى في يومٍ تداعى كل شيء  من حولي وإن أَهْوَنَ البيوت لبَيْتُ العنكبوت، فأنا لست افتراضيًا ولاّ من صُنع خيال كاتب، تلك الشخصيات التي عِشت معها كانت تُعبر عما يوجد في باطِني،  مُجردُ انعكاسٍ  لما يُوجد في اللاشعور، تلك المكبوتات التي تكدست على صدري كأنها بركان خامد تفجرت كلما حملت قلمي، فكنت لا أتوقف عن الكتابة ..

في ذلك العالم الذي ابتدعته كل ما هو غير مُباح جعلته مباحًا، ليس هناك حَدٌ لِلْحَدِ نفسه، آه من منا لا يريد عالمًا كهذا، أحببت فيه فكرة السيطرة، القرار من صُنع إرادتي الحُرة دون قيود ، في ذلك العالم خرجت أفكاري الشيطانية لتصبح سجينة أوراقي، مجهولة النسب لأني لم أنسبها يوما لرحم قلمي، حسنا لا داعي للسخرية، أدرك أنها جزء مني .. جميعنا لدينا السجادة التي يجتمع تحتها الغبار.

الأنا الطفل الخاضع كان يظهر كلما جابهت عالمي الواقعي، ما زلت أذكر كلام أستاذة الصف الرابع ابتدائي في نهاية السنة حين قالت لأمي: "ابنك ضعيف الشخصية ولا يثق في نفسه، سلوكه عدواني اتجاه زملائه، أنصحك يا سيدتي أن تأخذيه إلى مدرسة لدوي الإحتياجات الخاصة" ..

لم أتألم يومها لكلام معلمتي فهي لو تقربت مني لفهمت ما كنت أعيشه، لكانت رأت الصورة الحقيقية، فأنا لم أكن ضعيف شخصية ولا انطوائيا، بل فقط كنت أهرب من نظراتهم المشفقة على حالي، وذلك السلوك العدواني كان مجرد دفاع عن النفس أمام كلام زملائي .. "يا صاحب الركبتين" .. ما ذنبي أني دفعت من رحم أمي بلا رجلين!
بل يومها تألمت لدموع أمي، كم كان طريق العودة شاقا على قلبي ودموعها كالودق الخفيف ينساب فوق عنقي بلا انقطاع ..

مُعلمتي لم تكن تَعرف أن أبي توفي وأنا بعُمر السنتين، تاركًا وراءه زوجة في ريعان شبابها لم تتجاوز العشرين، كرست روحها لتربيتي وتعليمي ورغم المشقات إلا انها تجاوزتها جميعًا من أجلي .

كانت تقول للجميع: عقله مكتمل ألا يكفي هذا ؟؟ آه يا أمي يا ليتهم كانوا ينظرون لي بعينيك حتى لا يحكمون علي بسبب نقصي، احترق قلبي يومها على بكاءك يا أمي.

وضعتني في فراشي، وعيناها الجميلتين تتهرب مني، لا تريدني أن أرى حزنها، مسكت يدَيْها وقبلتهما بقوة وقلت لها: سامحيني أمي، سامحيني لأني مُعاق .
فبادرتني بصفعة قوية وصرخت في وجهي: أنا أنجبت رجلاً وأملي فيك كبير، إياك أن تُخَيِب ظنِي بك.

هكذا هي أمي ترفض الاستسلام، إن استلزم الأمر فهي تضع قلبها جانبا لتعلمني درسًا من دروس الحياة ، ويومها تعلمت أول درس : هناك بشر مكتملين خلقيًا ولكنهم معاقون فكريًا. 

جميع أبطال قصصي كان طيف أمي موجود بينهم، لم أستطع الاستغناء عنها في ذلك العالم، استغرقت زمنا طويلا حتى فهمت أن إبداع الكاتب ليس سوى استجابة لمنبهات خارجية أثارت خياله، منبهات قد تأتي على شاكلة بشر يتأثر بهم فيصبحون جزءً من عالمه الذي ابتدعه، فتجدهم يختبئون بين ثنايا حروفه .

وذات يوم في جلسة شبابية مع أصدقاء الحي، كانت الأجواء مضطربة فامتحانات البكالوريا على الأبواب  ورغم ذلك لا يمكن أن تمُرَ جلسة كهذه بلا الحديث عن الفتيات، جميعهم يعيشون قصص حبٍ وهمية وكان يفترض بي أن لا أشاركهم في مثل هذه الأحاديث، فمن ستحبُ شابًا لا يمتلك رجلين، ولكن ياسمينة أحبتني، لم يعرفوا أن لي حبيبة أرجع كل ليلة لأرمي نفسي بين أحضانها، عشنا مغامرات كثيرة وسمعت منها كلام غزل لم يسمعه أحد قبلي، أعلنت للعالم كله عن حبنا الأسطوري ..
لكني هنا بين أصدقائي أعيش واقعا فرضوه علي، واقع أصارع فيه فقط لأقول بما أوتيت من قوة " أنا موجود " واقع  يومي فيه ينتهي بدموع تنساب بين خدي كالطفل الصغير ..

أعود إلى المنزل فتسألني أمي  كل ليلة : لماذا تعشق الجلوس في الظلام ؟ لا تعرف بأني لم أكن لوحدي بل كنت منغمسًا في خيالي الجميل، وكأنه نوع من الميكانيزمات الدفاعية حتى لا أصل لآخر مرحلة من الاكتئاب (الاحتراق النفسي) حينها ستشهد غرفتي آخر نفسٍ لي..
وفي أول يوم لي في الجامعة، حقنتي أمي بجملة ظننتها المضاد الفعال لما سأواجهه من فيروسات في ذلك المكان الموحش البعيد: "فقط إن كنت متميزًا في دراستك لن تُر إعاقتك، ثابر لتصبح  قدوة لمن هم مثلك، وللأسوياء أيضًا" 

وبالفعل يا أمي سهرتُ وتعبتُ وحين جئتُ الأول على دفعتي بتقدير امتياز هاجمتني الأقاويل من كل صوب:  "هو الأول ! يستحيل ذلك ! آه لقد أشفق الأساتذة على حالته فساعدوه".
 
أحيانًا كنت أتمنى لو خُلقت أصمًا، وهل البشر يفكرون بأرجلهم مثلاً ! حتى لا تسمح لي حالتي أن أكون الأول على الدفعة ! ألا يدركون أن كلماتهم رماح سامة تخترق القلوب فتحدث جروحًا عميقة، تبقى نُدوبها على مر الزمن، ولكن عي أن أعترف، جميع آلامي كانت تزول فور رؤيتي لعيونها وهي ترقص فرحًا وهي تعلق شهاداتي، وآخرها كانت شهادة الدكتوراه، اختارت لها أمي مكانا مناسبا بين تلك الشهادات وهي تردد "في البداية حاربوك وقفوا أمام طموحاتك ولكنك رفصتهم .. "


ظننتُ أني سأتلهف لتغير نظراتهم، الآن سيتعاملون معي كرجل مكتمل، ولكن بدلاً من انتظار ذلك  تعلمت التكيف، لأنّ والدتي علمتني أن النجاح لا يحتاج الى أقدام بل إلى إقدام. 

سأنهي قصتي بالصفعة  التي غيرت مجرى حياتي، الصفعة التي أعادتني إلى عالمكم الذي ظللتُ أفرُ  منه لسنوات، أمي حبيبة الروح توفيت، ذهبت تاركةً  فراغًا لن يعبئهُ دفتر قصصي، توفيت أمي وآخر كلماتها "اجعل من خيالك واقعًا لغيرك "، كانت تدرك أن خيالي يسرقني من واقعي، لم تتقبل أنه مجرد تطهير نفسي لما أكبُته، وصولا إلى الصِحة النفسية.

"أرجوك تجاوز بالمواجهة، احذر، احذر أن تقع في قبضة خيالك "...






                                                                      

تعليقات

الفهرس