القائمة الرئيسية

الصفحات

أمسية مجاهد "العيفة أحمد"

مدونة محيدب سارة


 "وللحرية الحمراء باب، بكل يدٍ مدرقةٍ تدق" 


الذكرى 67 لاندلاع الثورة التحريرية المجيدة الأول من نوفمر 1954


"نوفمر جل جلالك فينا، ألستَ الذي بثَ فينَا اليقين"


أُمسية مجاهد


قصة قصيرة "مقتبسة من الواقع"






إلى أقرب وأعز الناس على قلبي  ..  إلى من رعاني وعلمني حُب الوطن

في ذِكراك يا جدي "العيفة أحمد"  ... حفيدتك محيدب سارة





ساحت دموع السحاب رذاذًا خفيفًا ما لَبِثَ أن اشتد وقوي، إنها العطلة الشتوية التي تدغدغ أرواحنا المنهكة بعد فصل دراسي منهك، في هذه الأثناء اختلجت أنوار الغروب الفاترة وما هي إلا لحظات وحقن الظلام سواده حول المنزل الذي لا ينطفئ نوره، منزل جدي ..

جلسنا نحن الأحفاد حول بطل من أبطال الجزائر، ونظراته الثائرة تبشرنا بحكاية أخرى من حكايا الثورة .. البارحة تعلمنا أن لا سماح مع من يغتصب أرضك، وأن ما أوتي بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، وأن الجزائري يستشهد مبتسمًا وعِزه يرفرف قبل عَلَمه.

الغرفة شبه مظلمة، البرق يومِض فيضيئها قليلاً من حين لآخر، النعاس يخطط للتسلل إلينا لكننا نحاول المقاومة، أحضرت جدتي بطانياتٍ ثقيلة وأكوابًا من النعناع الساخِن، وعندما رآنا جدي مستعدين للاستماع بدأ الحكاية ..

 جدي:

 كنا في شهر نوفمبر، أُرسلنا في مهمة خاصة ومستعجلة إلى منطقة كانت تدعى آنذاك "بمنطقة التِسْعَة" بولاية سكيكدة، أسرعنا لتلبية نداء الوطن ونحن لا نعرف ما ينتظرنا، هل الشهادة أم الأسر؟ أم سنذهب ضحية خنجر الخونة الذين يرتدون عباءة الصديق؟ الله وحده يعلم، ليلتها بِتْنَا نتسامر والبعض منا يُجهز الأسلحة والبعض الآخر يستذكر خطتنا بحثًا عن ثغرات قد تجعلنا نبوئ بالفشل، ألقيتُ بجسدي تحت جدع شجرة البلوط، أفكر في "المحروسة" الحبيبة التي نتشاركها جميعًا، دقات قلبي المتحمسة تهمسُ في شراييني "الحرية، الجزائر ستضع تاج الحرية"، ثم تقلبتُ فتذكرتُ زوجتي وأولادي، كيف هي أحوالهم يا ترى؟  منذ تسعة أشهر لم نتبادل أخبارنا .. جذبتني خيوط تخيلاتي حتى أدخلتني شرنقة النعاس .. ولم أستيقظ إلا على صوت المجاهدين وهم ينادون "أسرع ..أسرع يا أحمد المنطقة بعيدة وعلينا الانطلاق قبل بزوغ الفجر ".

 نهضت مسرعًا، حملتُ سلاحي وانطلقنا إلى موعد استلام الأسلحة، عندما اقتربنا من منطقة "التسعة" ،كان النسيم يحمل هدوءًا لا يبشر بالخير، وفي ثانية اختفى صوت أنفاسِي وانهمرَ علينَا وابلٌ من الرصاص، أخدنا نلتفتُ في جميع الاتجاهات، نطلق رصاصات عشوائية وظهرنا مكشوف للعدو،  سقط الجميع شهداء والسلاح بأيديهم، أما أنا فأصابتني رصاصة أفقدتني وعيي ..

 قاطعته: أأحسست بالألم يا جدي؟

نظر نحوي وابتسم ثم ربت على كتفي: يومها تمنيتُ الموت ولا الشعور بذلك الألم، ألم الخيانة والغدر على من باعونا لفرنسا  ..

عندما استفقتُ وجدتُ نفسي بين جثث أصدقائي الشهداء، كانت الرصاصة قد أصابت قدمي، نزعتُ قميصي وحملتُ به رجلي المصابة ثم اتكأتُ على سلاحِي وانطلقتُ باحثًا عن المساعدة، ثلاثة أيام وأنا على تلك الحالة، من شدة عطشي شربتُ "البول" أكرمكم الله، وبعد عناءٍ طويلٍ وصلتُ إلى بحيرة، اغتسلتُ وشربت الكثير من الماء حتى سقطتُ مغشيًا على الأرض .. وفي تلك اللحظة رأيتُ حركة بين الحشائش الكثيفة، أخذتُ سلاحِي بسرعة وتأهبتُ للدفاع عن روحي، فإذا بثعبانٍ ضخم يتجهُ نحوَ البحيرة.

بلعتُ الريق بصعوبة وبدأت أنطق الشهادة، قلت في نفسي: يا أحمد من أنجاكَ من غدر الخونة ألن ينجيك من هذا الثعبان .. بقيت أراقبه، فإذا به يشربُ الماء ثم يعود من  حيث أتى ..فتنفستُ الصعداء ..

وبعد مدةٍ تمكن المجاهدين من إيجادي، وأنا في حالةٍ حرجة لأني فقدتُ الكثير من الدماء، أخذوا يقبلونني من شدة الفرح بعد أن ظنوا أني مِتُ شهيدًا وسجلوني كذلك ..

الحمد الله تعافيت، صحيح أني تابعتُ بقية حياتي أعرجًا، لكن الروح ترخسُ في سبيل الوطن وكل شيء نملكه نقدمه فداءًا لمحروستنا، الجزائر ..

 

****

أحمد شوقي:

 

مواطنكم يا قوم أم كريمة     

                         تدر لكم منها مدى العمر ألبان

ففي حضنها مهد لكم و مباءة      

                    و في قلبها عطف عليكم و تحنان

فما بالكم لا تحسنون و واجب            

             على الابن للأم الكريمة إحسان؟


****

قضيتُ خمسة عشرة سنة رفيقة لجدي رحمه الله، مجاهد ومعطوب حرب من خيرة ما أنجبت ولاية سكيكدة، "العيفة رابح" كبرتُ معه على قصص الثوار في جبالنا، وكيف كانوا يجلبون الأسلحة من بلاد القبائل، والشقيقة تونس، وكان أكثر ما حدثنا عنه هي كمائن الخونة من أبناء الوطن الذين لولا وجودهم ما مكثت فرنسا الطاغية بضعة شهور، أغلب حكاياته عن "القومية" وعن مناطق بأكملها حملت تاريخا أسودًا في الخيانة، حتى أنه عرفنا بأشخاص غيروا جلدتهم بعد الاستقلال وغذى أحفادهم يتفاخرون بهم على أنهم أبطال ..


لهذا رحم الله شهداء الجزائر وأبطالها، ولا سامح من باع وطنه وأرواح اخوته من أجل متاع الدنيا ..



مدونة محيدب سارة


***

تمت كتابة هذه القصة سنة 2005، بعد وفاة جدي رحمه الله، وأنا لم أتجاوز الخامسة عشر.


اقرأ أيضا: زادُ الحياة (قصة قصيرة)


تعليقات

تعليق واحد
إرسال تعليق

إرسال تعليق

أضف تعليق

الفهرس