القائمة الرئيسية

الصفحات

 

مدونة محيدب سارة



محيدب سارة

خرجَ عُمر من العمل عائدًا إلى الحي بوجهٍ مصفر كحبة الليمون، يُفكر في بدائل تنقده من جحيمه اليومي، دخل المقهى فوجده مكتظًا عن آخره،  دُخان السجائر في الهواء يتماوج على مهل وأحجار النرد تتطاير، ولا يُسمَعُ سِوى حديثٍ صاخِب مُوَحَد، الجميع يتحدث عن مُظاهرة مليونية لرفض العهدة الخامسة للرئيس الحالي للبلاد الذي قضى تسعة عشر سنة على كرسي الحكم.

طلب كوبًا من القهوة ثم أخذ مكانًا منعزلاً في آخر المقهى فيقع الجميع تحت مجال نظره وسمعه، وبقي يستمعُ للأحاديث من حوله، رجلٌ خماسيني يبدو أكبر من عمره بأسنانه المتساقطة وشعره الغير مرتب، يدخن السيجارة بشراهة وكأنّ غضب الكون بأكمله يتمركز في أعماقه. 

نفثَ الرجل الدخان ثم قال مزمجرًا وهو يخاطب من حوله على الطاولة اللذين يتشاركون معه في الفئة العمرية:

هذا الشباب الطائش لا أمل منه سيغرقون البلاد في الدماء مجددًا.

 

ردُوا جميعهم بنبرةٍ واثقة:


* نعم، صحيح.

 

برزَ صوت من أحد الجالسين في المقهى:


الله يستر.

 

فجأة رد عليه أحد الشباب، كان يجلسُ على يمينه رفقة أصدقاءه:


عِوَضَ أن يحاولوا إقناع هذا الشعب بعدم التظاهر لماذا لا يقنعون رجلاً واحد بعدم الترشح؟ لماذا لا تريدون الخير لهذه البلاد؟

 

أضاف صديقه:


لا يجيدون سوى تثبيط همتنا، نحن من سيغر هذه البلاد وسترون ..

 

استدارَ إليهم الرجل بوجه يلتهب غضبًا وقال:


من سيغر؟ أنتم ! جيل الكيراتين[1] والواي واي[2] ! جيل الكسولين والهاربين في قوارب الموت ! (ثم رفع يده مستخفًا) دعك من هذا أرجوك.

 

انتصبَ الشاب واقفًا بعد شعوره بالإهانة، ثم ملك نفسه وقال مخاطبًا أصدقائه:

قلت لكم المشكلة في وجود مثل هؤلاء ********

رمى ذلك الشاب بكلمته الفاحشة وخرج بينما الشيخ بدَا ثابتًا ولم يتأثر بكلمته، تابع نفث الدخان وكأن شيئا لم يكن !

أخرج عمر هاتفه والجًا به إلى صفحته على الفايسبوك التي أنشئها قبل خمس سنوات وأسماها (خربشات شيكوبستاني[3] Dz[4]) صفحة أعتاد فيها طرح آرائه في شتى المجالات، بالنسبة له فهذا العالم الافتراضي الذي ينشط فيه خفية متنفس لما يضجُ بداخله من أفكار ومشاعر .. ومن جديد ها هي الأفكار تنط يمنةً ويسارًا بحاجة لسجنهَا في منشور جديد ..

أصدقائي أعتذر عن الغياب المفاجئ، مشاغل الحياة كما تعرفون، اليوم لنا خربشات مع السياسة نستهلها بهذا العنوان (عهد الرئيس وجيل التسعينات بين مشاعر التبلد واللامبالاة والجهل السياسي ! هل هي بداية الثورة على كل هذا؟)

منذ أن وعيت على هذه الدنيا حتى بلغت من العمر أربعة وعشرين سنة وأنا أعرف رئيسًا واحدا للبلاد، تسعة عشر سنة زمنٌ كافٍ لينشأ جيل ناضج بأكمله إنه جيل التسعينات أكبرهم يبلغ من العمر 28 سنة وأصغرهم قد بلغ الثمانية عشر، جيلٌ يافع يمثل أعمدة الجزائر في حاضرها ولمستقبلها.

في هذا المنشور لست بصدد الحديث عن صحة الرئيس ولا عن الجدل القائم حول قدرته على تولي مهام الحكم في البلاد، ولا أسعى لتسليط الضوء حول ترشحه لعهدة جديدة أم لا !

 بل الأقرب للحديث عنه هو مدى العمق الذي سيتركه هذا الرئيس، فالأكيد أنه ليس برجل خالد فالبقاء لله وحده ... هذه الآثار المعرفية والسلوكية وحتى الوجدانية التي انبلجت بفعل التأثير التراكمي من خلال التكرار خلقت جيلاً جاهلاً سياسيًا ومحايدًا تمامًا، وكأنه لا ينتمي لهذا الوطن ! لا يرى في قراره السياسي أي فائدة ولا إضافة فيلتزم الصمت أو ينطوي تحت الأقلية الزائفة التي تصنعها وسائل الإعلام أو تحت البدائل المتاحة المتمثلة في الأحزاب المعارضة وغيرها التي من الأساس لا تحوز على ثقته، وإن لم نقل أنّ الأغلبية تجهلها.

قِلة خبرة هذا الجيل وعدم تعدد تجاربه السياسية مما صاحبه عدم التنوع في الخطاب الإعلامي للرؤساء مع الغياب التام للخطاب الإقناعي (فهو لم يرَ سوى أجندة واحدة لرئيس واحد تركز على استغلال النزعة العاطفية لديه من خلال الترهيب بفقدان الأمن) جعلت التفكير بمطالبة الرئيس الحالي أو القادم بالنهوض بالجانب التعليمي والاقتصادي والتكنولوجي وتحسين الأوضاع المعيشية وغيره كأمور أساسية في البرنامج الرئاسي ضَربًا من العته ! أو هترفات حالمين بعيدة عن المعقول ! فكل ما يهم في هذه البلاد هو العيش في أمان حتى لو كنا عبيد ! ومن جهة أخرى تنعدم الثقة في العلاقة القائمة بين هذا النظام والشعب وخير من وصف ذلك أدونيس الذي يقول: (في السنوات الخمسين الأخيرة أخذت العلاقة بين المواطن العربي والسلطة تتأسس على انعدام الثقة فالمواطن لا يثق بسلطته التي فُوِّض إليها أمرُ حياته وثقافته والسلطة لا تثق بهذا المواطن الذي يدفع الضرائب ويُدافع عن وطنه تحولت العلاقة بينهما فأصبحت مسألة (أمنية) في المقام الأول، صار الهاجس الأول للسلطة هو أن (تحميَ) نفسها حمايةً كاملة وبمختلف الوسائل من عدوان المواطن، تقابلها عند المواطن (ثقافة الاحتماء) من عدوان السلطة سواء بالصمت أو البُعد والانعزال عن السياسة أو بالنفاق والتزلف بشكلٍ أو آخر قليلاً أو كثيراً).

شباب بلادنا اليوم يندرج ضمن الجماهير المحايدة التي ستكون أكثر ضررًا على الوطن من غيرهم والجهل السياسي الذي تغلغل في عقولهم لن يمضي لوجود قناعة شخصية بأنّ الأوضاع لن تتغير ! إنهم منجذبون كالمغناطيس لدائرة "التخوين وفقدان الثقة في النظام الذي يقبع في برجه العاجي" فكيف يتابعون ما يجري من حولهم؟ والجهل السياسي لا نقصد به هنا بالضرورة غياب المعلومات بل قد يكون الترويج لمعلومات ومفاهيم مغايرة للواقع، كما أن وسائل الاعلام تقدم السياسة ولا تشرحها مما سمح للدعاية المغرضة الذكية بالسيطرة على الساحة السياسية فلو أطلقتَ سمعك بين هؤلاء الشباب تجدهم جميعًا يتحدثون في السياسة، لا بل يجادلون فيهَا ! وهذا ما يجعلني أستحضر قول برنارد شو: (هو لا يعرف شيئًا ويظن أنه يعرف الكثير إذاً فهو يمتهن السياسة) أما مشاعر التبلد فهي نِتاجُ فشل هؤلاء الشباب في التعبير على أرض الواقع فيلجئون هنا إلى مواقع التواصل الاجتماعي لتفريغ سخطهم وغضبهم من الحكومة وغالبًا ما تجدهم تابعين لشخصيات افتراضية (قادة الرأي المؤثرون في العالم الافتراضي) ما يجعلهم عرضة للكثير من المغالطات والوقوع في فخاخ أصحاب المصالح الشخصية وكما يقول جلال الخوالدة: (في الماضي كانت تُمارس علينا سياسات التجهيل، الآن نمارس على أنفسنا سياسة تصديق كل الخداع الإعلامي ..النتيجة واحدة) وخاصة عندما لا نجد مناهل أخرى للمعرفة السياسية.

بينما اللامبالاة فهي حسب علم النفس حالة وجدانية سلوكية يتصرف المرء هنا بلا اهتمام في شتى مجالات حياته ومنها الأحداث العامة (كالسياسة موضع حديثنا الآن) وإن كان ضارًا عليه مع عدم توفر الإرادة على الفعل، نتيجةً ذلك فنحن نرى رئيسًا ثابتًا منذ تسعة عشر سنة والمضطلع من الخارج قد يتساءل هل هذا حكم ملكي أم ديمقراطي !

وأخيرًا أنطلق لوضع نهاية لهذا المنشور عبر تساؤلات تنهش عقولنا أيامًا قبل اليوم الموعود (22 فيفري):  

بدايةً كيف يمكن كسر الركود والجمود الفكري خاصة السياسي والتغلب على مشاعر التبلد واللامبالاة اتجاه أهم الأحداث السياسية ولعل على رأسها الانتخابات الرئاسية القادمة؟ وهل ستبقى هذه العقلية التي تشكلت طيلة تسعة عشر سنة هي نفسها بعد انقضاء عهد الرئيس الحالي ! والأهم ما هو الطريق الممنهج الذي يجب اتباعه لنشر الوعي السياسي بين العقول اليافعة؟ وهل سنتمكن من استعادة سيادتنا وحريتنا ونكسر الصورة الروتينية المشكلة عن السياسيين لدى الشعب وخاصة الشباب، أنهم غير مهتمين بهم وبهذا فلا رقيب على أفعالهم !؟

 شكوبستاني ضائع ..

مدونة محيدب سارة


اقرأ أيضا: قصص قصيرة




[1]  جيل الكيراتين: مصطلح القصد منه السخرية بالشباب فئة الذكور الذين يستخدمون الكيراتين كنوع من التشبه بالنساء والكيراتين مادة بروتينية تستخدم في علاج الشعر.  

[2]  الواي واي: نمط غنائي ظهر في الجزائر أواخر عام 2010 .

[3]  شكوبستاني: يستخدم البعض مصطلح شكوبيستان كدلالة على الجزائر لانتقاد الاوضاع السياسية والاقتصادية ومعاناة الشباب الجزائري وحلم الهجرة، استخدم البعض الآخر دولة شيكوبستان أو Shkoupistane للمزاح والسخرية والترفيه على مواقع التواصل الاجتماعي مع استخدامه في الهاشتاج والتغريد على تويتر.

[4]  (DZ) اختصار لمصطلح بالعامية الجزائرية  (دزاير) والمقصود به الجزائر.

تعليقات

الفهرس